الرئيسية / مقالات رأي / ماذا سيكون شكل العالم بعد الحرب في أوكرانيا؟

ماذا سيكون شكل العالم بعد الحرب في أوكرانيا؟

بقلم: جمال أبو الحسن – المصري اليوم 

الشرق اليوم – الأيام الماضية حملت من المعلومات ما يُشير إلى أن الغزو الروسي لأوكرانيا صار هو الاحتمال الأقرب. ليس وقوع الحرب يقينيًا، في ضوء ما يُحيط بهذا النزاع من غيوم مخابراتية وضباب المناورات الكثيفة التي تُمارسها كافة الأطراف. على أن احتمالات الغزو أكبر على نحو مُعتبر من احتمالات تراجعٍ روسي. الإشارة الأهم جاءت من الرئيس الأمريكي «بايدن» بالأمس عندما أعلن أن الحرب، وفقًا لتقديره، سوف تقع في غضون أيام.

وعندما سُئل إن كان مقتنعًا بأن الرئيس بوتين قد اتخذ قرار الحرب أجاب بالإيجاب، وأضاف أن بلاده لديها معلومات استخباراتية معتبرة تصب في هذا الاتجاه. هو أوضح في كلمته القصيرة أن الغزو الروسي سوف يتضمن هجومًا على العاصمة كييف التي يقطنها نحو 3 ملايين إنسان، وقال إن بلاده لن تُرسل قواتٍ للقتال في أوكرانيا، ولكن حلف الناتو سيحرص على أن تدفع روسيا ثمن هذا الغزو الكارثي.

لقد شهد الأسبوع الماضي تقارير متضاربة عن انسحاب بعض الوحدات الروسية المُطبقة على أوكرانيا من مختلف الجهات تقريبًا. البعض استشعر تراجعًا روسيًا، قبل أن تُكذب الحقائق هذا الأمل: ثمة 190 ألف جندي روسي على أعتاب أوكرانيا، ونصف هذه القوات اتخذت أوضاعًا هجومية. هناك بالفعل تهيئة إعلامية تجري للرأي العام الروسي مؤداها أن الروس في شرق أوكرانيا -المتنازَع عليها- يتعرضون لـ«إبادة»، فضلًا عن ذلك، فقد تعرضت البنوك الرئيسية في أوكرانيا، وكذلك وزارة الدفاع، لهجوم سيبراني ثبت بالأمس أنه روسي المنشأ. هذه بالضبط هي نوعية العمليات التحضيرية التي تحدّث عنها المسؤولون الغربيون، خاصة الأمريكان، في الأيام الفائتة باعتبارها «عمليات تمويه» تستهدف خلق الذريعة لغزو أوكرانيا. من الواضح أن بوتين قد عقد العزم على الغزو، خاصة أن تراجعه يبدو، مع مرور الوقت، عملًا مكلفًا له، سواء على الساحة الداخلية أو في وضعيته الدولية.

ما الذي يعنيه غزو روسي لأوكرانيا، إن وقع؟ إننا -ابتداء- سنكون أمام حدثٍ كبير، من النوعية التي توصف بالتاريخية. العاصمة الأوكرانية «كييف» هي عاصمة لدولة مستقلة ذات سيادة، ومعترف بها من النظام الدولي. الإطاحة بالحكم القائم في كييف، ووضعها تحت الاحتلال (وهي النتيجة الطبيعية للغزو) تطور لم تشهده الساحة الأوروبية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية تقريبًا. يُلاحظ هنا أن الحرب الباردة، التي استمرت نحو نصف قرن بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، كانت -وفقًا لمُسماها- «باردة»، وأن أغلب معاركها وحروبها كانت بالوكالة، وأن المسرح الأوروبي لم يشهد خلالها مواجهات مُسلحة. الحدث الأقرب شبهًا هو الغزو العراقي الذي باشره «صدام حسين» على الكويت في 1990، والذي قاد إلى حرب الخليج الثانية لتحرير الكويت، وخلق اضطرابات لاتزال تُعاني منها منطقة الشرق الأوسط إلى اليوم.

النتيجة الثانية التي ستترتب على الغزو (مرة ثانية، إن وقع) هي أن العالم سيدخل نوعًا من حرب باردة جديدة. والحقيقة أن التعريف الأدق هنا هو: الصراع بين القوى الكبرى، ذلك أننا لا نعرف بعد ما إن كان هذا الصراع باردًا كسلفه، أو أنه سيكون ساخنًا، حامي الوطيس. السبب في أن كلمة «الحرب الباردة» التي يأتي ذكرها على الألسن هي أن هذه الحرب تُمثل الخبرة الأحدث للبشرية مع صراعات القوى الكبرى (وكانت لحسن الحظ باردة!)، وأن هذه النوعية من المنافسات القاتلة والمكلفة للبشر توارت وتراجعت خلال الأربعين عامًا الماضية، حتى إن البعض تحدث باستحالة وقوعها في المستقبل. والحال أن الشواهد كلها تُشير إلى عودة هذه الصراعات من جديد إلى عالمنا، وهو ليس خبرًا سارًا لكل مَن يرغبون في عالمٍ أكثر أمنًا وازدهارًا، لهم ولأبنائهم.

النتيجة الثالثة أن هذا الحدث الكبير لن تقف آثاره وتبعاته على الدول المنخرطة فيه، فالمنافسات في قمة النظام الدولي تُعيد تشكيله، وترسم من جديد قواعده الحاكمة وأعرافه السائدة. القوى الكبرى لا تخوض النزاعات على أراضيها غالبًا، بل هي تفعل ذلك- وللأسف- على مسارح الآخرين، بل كثيرًا ما تخوض هذه النزاعات بقواتِ دولٍ أخرى، فيما يُعرف بحروب الوكالة. وفي اللحظة التي يُقرر فيها الرئيس بوتين غزو أوكرانيا سيُصبح العالم كله، بدرجات متفاوتة بالطبع، متورطًا في هذا النزاع وفي آثاره الممتدة. مؤسسات الأمن القومي، في أركان العالم المختلفة، سوف تُعيد تقييم الموقف، وتُجرى حسابات مختلفة حول المخاطر والفرص. إن العالم الذي يُمكن فيه الإطاحة بسيادة دولة، بين عشية وضحاها، عبر عملية غزو تقليدية لا تختلف- في جوهرها- عن الغزوات النابليونية.. هو عالم مختلف كُليًا عن ذاك الذي عرفناه في العقود الأربعة الماضية، حيث لم تعد الحرب على هذا النحو أمرًا محتمل الوقوع، بل هي مستبعدة. وعندما تصل مؤسسات الأمن القومي، في مختلف الدول، إلى خُلاصة بأن «قواعد اللعب» في العالم قد تغيرت، فإننا قد نُفاجأ بأحداثٍ غير متوقعة في أركان مختلفة من المعمورة ترتيبًا على هذا الفهم الجديد.

النتيجة الرابعة هي أن أغلب دول العالم ستكون مُطالبة، عما قريب، باتخاذ مواقف قاطعة. سيصير الوقوف على ضفتي النزاع أمرًا أكثر صعوبة، بل ربما يُصبح «الجلوس على السور» والمشاهدة من بعيد أمرًا مُكلفًا أيضًا. اللون الرمادي لن يكون شائعًا في عالم يتشكل على وقع منافسات مصيرية بين القوى الكبرى. وقد يقول قائل إن عالمًا يتنافس فيه الكبار قد يتيح للقوى الصغرى والمتوسطة- ومنها بلدنا مصر- مساحة أكبر للمناورة، واللعب على التناقضات الدولية. ويعود مثل هذا التصور بالطبع إلى زمن الحرب الباردة، حيث كانت هذه الاستراتيجية شائعة بالذات لدى الدول التي عُرفت وقتها بـ«العالم الثالث». وواقع الأمر أن مَن يُعيد قراءة تاريخ الحرب الباردة على نحوٍ مُدقق سيدرك أن أغلبية هذه الدول كانت تقف بالفعل في معسكرٍ معين حتى وإن أعلنت ما يُسمى «الحياد»، أو الحياد الإيجابي أو عدم الانحياز أو غير ذلك من المُسميات التي تُشير إلى استقلالية القرار الاستراتيجي. والحاصل أن التجربة المصرية، على وجه الخصوص، تكشف عن خطورة اللعب على التناقضات بين المعسكرين، وعن حتمية الانحياز الاستراتيجي في اللحظات الوجودية الفاصلة. تكشف تجربتنا التاريخية كذلك عن حقيقة أساسية هي ما يُرتبه اختيارنا للمعسكر الذي نقف فيه من تبعات هائلة على أمننا القومي، واختياراتنا الداخلية، ومساراتنا الوطنية في التنمية.

هذه النتائج الأربع، وغيرها كثير، سوف تتكشف تِباعًا بُعيد اللحظة التي يضغط فيها الرئيس بوتين على الزناد مُطلقًا غزوًا يراه- من وجهة نظره- مُعزِّزًا لمكانته الداخلية وصورته في العالم، ولأمن بلاده القومي. بينما لا نرى فيه سوى تكرار لتجارب تاريخية سابقة تُبالغ في تصور الإمكانيات الذاتية من ناحية، وتُقلل من قوة الخصوم من ناحية أخرى. على المدى القصير قد يبدو بوتين ناجحًا في إحراز انتصار صغير. على المدى الطويل، لا فُرصة أمامه تقريبًا.

شاهد أيضاً

رهان أمريكا على الهدنة

بقلم: يونس السيد – صحيفة الخليج الشرق اليوم- فرضت غزة نفسها بقوة على صانع القرار …