الرئيسية / مقالات رأي / Project Syndicate: الصين ومناورة المثلث

Project Syndicate: الصين ومناورة المثلث

الشرق اليوم- في أواخر 2019 حذر كيسنجر من أن الولايات المتحدة والصين تقفان بالفعل على “سفوح حرب باردة جديدة”، ومنذ ذلك الحين ازدادت الحبكة إحكاما مع ظهور استراتيجية المثلث الجديدة، والحق أن مناورة شي وبوتين تعزز الاستنتاج بأن هذه الحرب الباردة ستكون مختلفة تماما عن الحرب السابقة، ومن المحزن أن أمريكا تبدو غافلة تماماً عن الخطر.

نادراً ما تكون نقاط التحول ظاهرة بقدر كبير من الوضوح، لكن البيان المشترك الصادر في الرابع من فبراير الجاري عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ مع افتتاح دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية في بكين ربما يكون استثناء، مما يشير إلى نقطة تحول جديدة في حرب باردة جديدة.

كانت لعبة المثلث مناورة أمريكا الاستراتيجية الحاسمة في الحرب الباردة الأولى، إذ أفضى تقارب ريتشارد نيكسون مع الصين قبل خمسين عاما إلى عزل الاتحاد السوفياتي السابق في وقت بدأت أساساته الاقتصادية تتداعى، وعلى حد تعبير هنري كيسنجر في كتابه “عن الصين”، “بدأ التقارب الصيني الأمريكي كجانب تكتيكي في الحرب الباردة؛ ثم تطور إلى أن أصبح على قدر كبير من الأهمية في تعزيز تطور النظام العالمي الجديد”، واستغرق الأمر بعض الوقت قبل أن تنجح الاستراتيجية، ولكن بعد سبعة عشر عاما، سقط سور برلين وانهار الاتحاد السوفياتي.

لم تكن الصين قَـط ممن يتجاهلون دروس التاريخ، وهي الآن تختار ممارسة مناورة المثلث في حرب باردة ثانية وليدة، قد تتسبب الشراكة الترادفية بين الصين وروسيا في تحويل توازن القوى العالمي في وقت حيث تعاني أميركا الضعف بشكل خاص، وهذا يشير إلى نهاية مثيرة للقلق.

بوسعنا أن نجد تلميحات مهمة عندما نفحص مناورة المثلث من الحرب الباردة الأولى، فبسبب خوفها من التهديد العسكري السوفياتي، قاومت الولايات المتحدة باحتضان الصين في زواج مصلحة اقتصادي، لا عليك من أن الشراكة الأميركية الصينية، التي زودت المستهلكين الأمريكيين المضغوطين بشدة بمنتجات رخيصة في البداية، تحطمت الآن بسبب الحرب التجارية والتكنولوجية، المقصود هنا هو أن استراتيجية مماثلة تجمع الآن بين الصين وروسيا.

هذا الزواج الجديد مناسب من الناحيتين الاقتصادية والجيوستراتيجية، فروسيا لديها الغاز الطبيعي الذي تحتاج إليه الصين المتعطشة للطاقة والتي تعتمد على الفحم وتعاني التلوث، والصين، بما تتمتع به من مدخرات فائضة، وقدر وفير من رأس المال الأجنبي، فضلا عن مبادرة الحزام والطريق، تعرض على روسيا نفوذا إضافيا لدعم طموحاتها الإقليمية التي لا تخفيها إلا قليلا.

والزاوية الجيوستراتيجية مقنعة بالقدر ذاته، الواقع أن كلا من شي جين بينغ وبوتين مقتنعان، سواء كانا على صواب أو خطأ، بأن الولايات المتحدة تسعى إلى احتواء صعودهما السلمي المفترض، ولا تكتفي الصين بالإشارة إلى الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب والعقوبات المفروضة على شركات التكنولوجيا الصينية الرائدة، بل تشير أيضا إلى شراكة طموحة عبر المحيط الهادئ استبعدت الصين (والتي تحولت منذ ذلك الحين إلى الاتفاقية الشاملة التقدمية للشراكة عبر المحيط الهادئ). وفي وقت أقرب إلى الزمن الحاضر، أنشأت أستراليا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة ما يسمى الاتفاقية الأمنية الثلاثية AUKUS، والتي تستهدف الصين بوضوح تام.

يسوق بوتين حجة مماثلة في مقاومة احتواء الولايات المتحدة لروسيا، فخوفا من توسع حلف شمال الأطلسي، يبدو أنه أكثر من راغب في احتجاز أوكرانيا رهينة والدفع بأوروبا إلى شفا صراع مدمر آخر، الواقع أن بوتين، الذي وصف زوال الاتحاد السوفياتي على أنه “كارثة جيوسياسية كبرى في القرن العشرين”، لا يتمنى شيئا أفضل من إعادة التاريخ إلى الوراء، بيد أن تهديدات الرئيس الأميركي جو بايدن ربما تجعل بوتين محاصرا، فلا يجد مسارا للتهدئة يحفظ له كرامته، والكرامة هي كل شيء من منظور الحكام المستبدين.

لا يترك البيان الصيني الروسي المشترك الصادر في الرابع من فبراير أي مجال للشك في أن الزعيمين مُـجمِـعان على رأي مفاده أن أميركا تشكل تهديدا وجوديا لطموحاتهما، كان بوتين ناجحا في حمل شي جين بينغ على الإدلاء بدلوه ضد توسع حلف شمال الأطلسي، وهي قضية تقع خارج صلاحيات شي تماما، كما اختار شي بوتين للتوقيع على اتفاقية تناسب قالب “فِـكر شي جين بينغ”، مروجا لبيانهما المشترك على اعتباره تصريحا سياسيا صينيا آخر عظيما في “عصر جديد”.

ليس هناك من شك في أن الصين وروسيا احتضنتا لعبة المثلث كمناورة استراتيجية، ومن قبيل المفارقات أن الولايات المتحدة، على النقيض من زمن الحرب الباردة الأولى، هي الطرف الذي تُـمـارَس ضده مناورة المثلث الآن، وكما كانت الحال في السابق، فهناك سبب وجيه يجعلنا نعتقد أن النهاية ستتحدد في الساحة الاقتصادية.

هنا تصبح المقارنة بين الحربين الباردتين مثيرة للقلق بشكل خاص، فمنذ عام 1947 إلى عام 1991، كان اقتصاد الولايات المتحدة متوازنا وقويا، وعلى النقيض من ذلك، على مدار العقد المنصرم، كان نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (1.75) ومكاسب الإنتاجية (1.1%) عند نصف معدلهما المتوسط خلال فترة السنوات الأربع والأربعين السابقة، والمقارنات الأخيرة أسوأ حتى بالنسبة للادخار المحلي، والحساب الجاري، والعجز التجاري الهائل في أمريكا.

انتصرت الولايات المتحدة في الحرب الباردة الأولى ليس فقط لأن اقتصادها كان قويا بل أيضا لأن خصمها كان فارغا، فبدءا من عام 1977، تباطأ نمو نصيب الفرد في الناتج في الاتحاد السوفياتي بشكل كبير، قبل أن يسجل هبوطا شديدا بمعدل بلغ 4.3% سنويا في المتوسط في العامين الأخيرين من الحرب الباردة. كان ذلك نذيرا بانهيار اقتصادي لاحق لـخَـلَـف الاتحاد السوفياتي، وبالفعل، خلال الفترة من 1991 إلى 1999، انكمش اقتصاد الاتحاد الروسي بنسبة 36%.

اليوم، يواجه الاقتصاد الأمريكي الأضعف الصين الصاعدة، على عكس الـصِـدام السابق بين أمريكا القوية والاتحاد السوفياتي المترنح، وليس من المحتمل فضلا عن ذلك أن يتضاءل نفوذ الصين بفعل روسيا، التي تؤدي دورا ثانويا في الاقتصاد العالمي، وفي عام 2021، كان الناتج المحلي الإجمالي الصيني ستة أضعاف مثيله في روسيا، ومن المتوقع أن تزداد الفجوة اتساعا في السنوات القادمة.

بيد أن بوتين يعطي شي جين بينغ ما يريده على وجه التحديد: شريكا قادرا على زعزعة استقرار التحالف الغربي وصرف تركيز أمريكا الاستراتيجي بعيدا عن استراتيجية احتواء الصين، فمن منظور شي، يترك هذا الباب مفتوحا على مصراعيه أمام صعود الصين إلى مكانة القوة العظمى، وتحقيق وعد التجديد الوطني المبين في “حلم الصين” العزيز على شي.

في أواخر عام 2019، حذر كيسنجر من أن الولايات المتحدة والصين تقفان بالفعل على “سفوح حرب باردة جديدة”، ومنذ ذلك الحين، ازدادت الحبكة إحكاما مع ظهور استراتيجية المثلث الجديدة، والحق أن مناورة شي وبوتين تعزز الاستنتاج بأن هذه الحرب الباردة ستكون مختلفة تماما عن الحرب السابقة، ومن المحزن أن أمريكا تبدو غافلة تماماً عن الخطر.

شاهد أيضاً

جامعات أميركا… حقائق وأبعاد

بقلم: إياد أبو شقرا- الشرق الأوسطالشرق اليوم– «الانتفاضة» التي شهدها ويشهدها عدد من الحُرم الجامعية …