الرئيسية / مقالات رأي / قصر نظر أميركي أم قلّة حيلة!؟

قصر نظر أميركي أم قلّة حيلة!؟

بقلم: محمد الرميحي – النهار العربي 

الشرق اليوم – ترتفع مستويات الحيرة لدى كثير من المتابعين، وهم ليسوا بالضرورة معادين لسياسة الولايات المتحدة الأميركية في القرن الجديد. ففي عهد دونالد ترامب تأذى أصدقاء أميركا أكثر من اعدائها جراء العديد من السياسات غير المدروسة، أما في عهد جو بايدن، فإن الأذى على طريقة سابقه الديموقراطي باراك أوباما أصبح موزعاً على الجميع… الأصدقاء والأعداء على السواء.

مشهد الخروج الأميركي من أفغانستان مذلّ ولكن الأكثر إذلالاً أنه تم بسبب القصور الشديد في الرؤية والتي استمرت لعقدين من الزمان ولم تصغ لها آليات أو خططاً واضحة للتعامل مع تلك البلاد المعقدة، فسُلم الأفغان الى فصيل يفكر ويعمل خارج العصر. وعلى الرغم مما نعرفه من أن هناك في الولايات المتحدة مؤسسات بحثية ومؤسسات سياسية من المفروض انها تنظر الى القضايا والمشكلات العالمية بعيون غير نفعية أو آنية، إنما استراتيجية، إلا أن أمراض السياسة الداخلية الأميركية التي تفاقمت في السنوات الأخيرة ألقت بعبئها الثقيل على السياسة الخارجية وجعلتها، ليست قاصرة فقط، بل في بعض الأوقات مخرّبة على المدى البعيد لمستقبل الشعوب.

ردود أفعال الولايات المتحدة على الساحة الدولية غير منتظمة وغير مبررة وفي الكثير من الأحيان غامضة، فهي مثلاً تخرج ثم تعود إلى العراق، وتخرج ثانية، وتتحدث عن عدوان الحوثيين على دولة الإمارات وقبلها المملكة العربية السعودية وكأنها لا تعلم أن كل ما يملكه الحوثي من أسلحة هي إيرانية، وكل قرارته تصدر من هناك. وتضع الولايات المتحدة الحوثي تارة في معسكر الإرهاب وتارة أخرى تُخرجه منها. تصطدم مع روسيا في أوكرانيا ثم تلوّح بسحب جزء من عديد قواتها من الجوار الروسي. انها تفقد الكثير من صدقيتها إلى درجة التباهي بقتل زعيم لمجموعة متخلفة مختفٍ عن الناس، وتصر على أنها استهدفته لوحدها، كدليل للقدرات، ولكنه دليل أيضاً على تواضع الإنجازات والفخر بها حتى لو كانت متواضعة!

في وقت سابق قامت إدارة باراك أوباما بمناصرة وصول “الإسلام الحركي” إلى الحكم في عدد من الدول العربية، بل ودافعت عن ذلك المشروع، وهو مشروع ليس له صلة لا بالزمن ولا بمطالب الناس، وقد قامت ضده حركات شعبية واسعة، سواء في مصر ومن ثم السودان وأخيراً تونس وحتى في عقر داره إيران بسبب الفقر والجوع، ولكن الأهم مستوى القمع الهائل ضد الناس الذي من المفروض أن تدينه الولايات المتحدة.

على المستوى نفسه تتسرب أخبار عن المفاوضات مع النظام الإيراني تشير إلى أن هناك صفقة ممكنة تقدم للنظام الإيراني حبل نجاة من المأزق الذي وقع فيه، وبالتالي تمكينه من تمويل مشروعه التخريبي التوسعي في الجوار، وهو مشروع معتمد على وهم الإمبراطورية من جهة، وسيلته الخرافة والأساطير المحمولة على تخيلات ليس لها تفسيرات عقلية من جهة أخرى. وفي الوقت نفسه تخوض الولايات المتحدة في مكان آخر حرباً دبلوماسية وإعلامية شعواء مع الصين بسبب تعاملها مع أقلية مواطنة لديها بسلبية، فيما تمد يد المساعدة، وإن بشكل غير مباشر، إلى أنظمة تناصب حقوق الإنسان عداءً أكبر بكثير حتى مما تدعي أن الصين تقوم به. تثير ضجة عن حقوق الإنسان في مكان وتسكت سكوت ملابس عن جرائم مستمرة في مكان آخر، تُنتهك فيه حقوق الإنسان وبشكل أفظع حيث تعيد مجتمعاتها الى القرون الوسطى متوسلة الحروب والقمع، وتغض الطرف عن مشاريع توسعية تسعى جاهدة لتدمير الشعوب من حولها. 

خصوم الولايات المتحدة يعرفون ذلك الضعف المؤسسي والتردد القائم في السياسة الخارجية والناتج من خلافات سياسية داخلية، لذلك فإنهم يدفعون بمشاريعهم إلى الإمام، وما الضجة الحاصلة الآن حول أوكرانيا إلا جزء من تلك المعادلة الضاغطة، فهي أي الولايات المتحدة جل ما تقوله إنها سوف تستجيب في حال اجتياح أوكرانيا بعدد من العقوبات الاقتصادية المشددة، وهي عقوبات تبيّن من تاريخها المعاصر في أكثر من مكان أنها لا تضر كثيراً، بل في بعض الأوقات تنفع من خلال تطوير الاقتصاد المحلي! وحتى حلفاء أميركا من الدول الغربية لديهم شكوك في تصميم وحزم الولايات المتحدة على تبني سياسات ثابتة، وهي شكوك تراود الآن الكثير من حلفاء الولايات المتحدة على مستوى العالم.

ماذا يعني كل ذلك للعرب؟ الخطوات التي يجب أن تتخذ هي ليس الانحياز الى هذا المشروع العالمي أو ذاك، فما زال الغرب والولايات المتحدة يشكلان مصدراً للكثير من الإيجابيات في العلم وفي المأسسة والحريات وليس مطلوباً إعلان الطلاق او العداء معهما، بل الدخول في حوار جاد غير مجامل من جهة، ومن جهة أخرى بناء المشروع العربي الحديث تحوطاً للاحتمالات والمبني على القوة الذاتية ما أمكن، وهذه الأخيرة تنبع من إصلاحات داخلية حقيقية في الاقتصاد والإدارة والحوكمة، وأيضاً من التكاتف الحقيقي بين الراغبين في المنطقة لحماية مصالحهم الوطنية. هناك بعض المؤشرات في ذلك الطريق ولكنها فردية وقصيرة الأمد، والمفروض أن تتحول الى شبه جماعية ومتوسطة وطويلة الأمد، لأن المنطقة لا تحتمل من جديد الوقوع في شباك التطرف الديني أو الانحياز السياسي.

شاهد أيضاً

“وستڤاليا” معاهدة أنهت الحروب الدينيّة، ولكن..

بقلم: حسن إسميك- النهار العربيالشرق اليوم– بدأتُ هذه السلسلة تحت عنوان عريض هو “هل تجاوزت …