الرئيسية / مقالات رأي / أوكرانيا بين المطرقة الروسية والسندان الأميركي

أوكرانيا بين المطرقة الروسية والسندان الأميركي

بقلم: أحمد محمود عجاج – الشرق الأوسط

الشرق اليوم – بعد انهزام هتلر تأسَّس نظامٌ عالميٌّ جديدٌ، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بزغ العصر الأميركي الأوحد بشقيه العسكري والآيديولوجي. لم يدم طويلاً هذا العصر بعدما برزت الصين كقوة منافسة، وروسيا كقوة إحيائية. لم تكن روسيا شاغلة للتفكير الأميركي، وإنما هي الصين التي تشكل الخطر الداهم على زعامة أميركا للعالم. فجأة وجدت أميركا ومعها حلفاؤها أنفسهم أمام تحدٍ روسيٍّ خطير؛ حشد الرئيس الروسي بوتين قواته على حدود أوكرانيا، وطالب أميركا بأن تتعهَّد خطياً بألا تضم أعضاء جدداً في حلف الناتو، وألا تقبل أبداً عضوية أوكرانيا وجورجيا، وأن تسحب صواريخ الناتو النووية المتوسطة من الجوار الروسي، وأن تبتعد في مناوراتها العسكرية عن حدود روسيا.

هذه الصراحة الروسية أربكت الأميركيين، لأنهم كانوا يظنون أن بوتين لن يتجرأ، وكانوا يعتبرون روسيا مجرد بلد مشاغب. فبوتين بتفضيله أن يعلن عن مطالبه علانية وليس بالطرق الدبلوماسية حشر نفسه، وحشر معه أميركا في الزاوية، وأصبح الحل الدبلوماسي صعباً؛ فلا أميركا يمكنها القبول بمطالبه، ولا بوتين يمكنه التراجع؛ وهكذا أصبحت الحرب وشيكة جداً. مقابل الصراحة الروسية تبدو الولايات المتحدة مترددة، ومتخوفة، وبلا خريطة طريق. فالتصريحات الأميركية بقدر ما تبدو قوية تظهر كذلك متساهلة لدرجة غير مفهومة؛ فبعد لقاءات بين بوتين وبايدن، وبعد اجتماعات بين الحلفاء الأميركان والأوروبيين على مدى يتجاوز الشهر، يخرج الرئيس الأميركي ليقول إن الرد الأميركي سيكون متناسباً مع حجم الاجتياح؛ وتفسير ذلك أن بوتين بوسعه أن يحتل شطراً من أوكرانيا لأن الرد سيكون بحجم هذا الشطر، تماماً كما حصل عندما احتل جزيرة القرم، وقبلها أراضي في جورجيا مثل أوستيسيا وأبخازيا. وعلل بايدن موقفه بأن الأوروبيين مختلفون على طرق مواجهة روسيا.

يبدو أن بايدن لا يريد المغامرة بحرب، ورأى في التفاوت الأوروبي وسيلة لأنه لو أراد جمعهم لكان له ما أراد؛ فأميركا في هذه اللحظة تدرك أن العدو الحقيقي هو الصين، وأن روسيا مجرد قوة مشاغبة، والحرب معها بلا جدوى. وكذلك ينظر الأوروبيون للأزمة من زوايا مختلفة تتناسب مع مصالحهم الضيقة؛ فالألمان يريدون الغاز والنفط الروسي، واستمرار العلاقات التجارية، والفرنسيون لا يريدون أن يقود الأميركيون المفاوضات، بل الاتحاد الأوروبي وبقيادة فرنسا، بينما ترى بريطانيا أن أميركا هي الضمانة والسير معها هو الأفضل؛ علاوة على ذلك توجد نزعة أوروبية كارهة للحروب، وقناعة بقوة الدبلوماسية والحوافز المادية. يقابل هذه المواقف الأوروبية موقف روسي واضح؛ فبوتين حشد جيوشه على الحدود، وعرض مطالبه، وأرفق ذلك بمقالة نشرت على موقع الحكومة الروسية الرسمي عنوانها «حول وحدة الروس والأوكرانيين»، أكد فيها أن أوكرانيا جزء من الإمبراطورية الروسية، وأن الشعبين من أصل سلافي واحد. هذا التأكيد رسالة واضحة بأن القضية جوهرية لروسيا، وأنه مستعد للمغامرة، لأنه يعرف أصلاً أن الغرب لن يتدخل عسكرياً، لأنَّ أوكرانيا ليست عضواً في حلف الناتو، تماماً كما حصل عندما ضمَّ جزيرة القرم، واستقطع أراضيَ من جورجيا.

السؤال: لماذا هذا التردد الغربي في مواجهة هذا التحدي الظاهر؟

هذا يعود إلى طبيعة الليبراليات الغربية؛ التي اعتادت على العيش الرغيد، وكراهية الحرب، والنظر لأي مشكلة من منظار نفعي ذاتي، وغياب الوحدة المجتمعية، والأهم افتقادها للقيادات التاريخية. فلا يوجد قائد في الغرب يرى الخطر الروسي وجودياً، بل يعتبرونه خطراً مرحلياً، على عكس قادة تاريخيين مثل تشرشل؛ فعندما كان هتلر يحتل أوروبا، وأصبحت هزيمة بريطانيا ممكنة جداً، ضغط عليه وزراؤه ونوابه أن يتفاوض مع هتلر لإنقاذ بريطانيا من هزيمة. لكنَّه بعد تفكير طويل خلال الليل، توصل في الصباح إلى قناعة بأنَّ خطر هتلر خطر وجودي، ولا يمكن التفاوض مع مستبد لسبب بسيط، وهو أنه لا يحترم المواثيق ولا المعاهدات. وخاض تشرشل الحرب، واستطاع أن يفوز لأنه أقنع شعبه بأنَّ الحرب هي الضمانة للسلام. وقبل هتلر كان زميله رئيس الوزراء تشمبرلن يرى أنَّ السلام يتحقق بالدبلوماسية والحلول الوسط؛ فعقد مع هتلر في ميونيخ اتفاقاً يسمح لهتلر بأن يقتطع من تشيكوسلوفاكيا منطقة Sudetenland مقابل السلام؛ وكانت النتيجة أن هتلر زادت شهيته وغزا بولندا، واندلعت حرب عالمية ثانية مدمرة.

لا شك أن بوتين يقرأ كل ذلك ويفهم سجل القادة الأميركيين المعاصرين وسيكولوجيتاهم؛ فهؤلاء القادة كانوا أصحاب القرار في الانسحاب من العراق وتركه بيد الميليشيات المذهبية لتهدمه بعد عمران، وتهربوا من المواجهة مع إيران وهي دولة أقل من الوسط، ولا يزال قادة هذا البلد يرفضون الجلوس مع الأميركي ويفاوضونه بطريقة غير مباشرة؛ وانسحبوا في ليل داهم من أفغانستان تاركين كل من تعاون معهم، ثم قلَّصوا وجودهم في الشرق الأوسط رغم الخطر على حلفائهم، وتركوا روسيا في سوريا تُمكِّن لميليشيات إيران، وقبل ذلك تخلوا عن تركيا في مواجهتها مع روسيا في سوريا؛ والأوروبيون، كقادة، لم يكونوا أفضل بل كان شعارهم في كل هذه الأزمات المساعدات الإنسانية والدبلوماسية، وليس مفاجئاً أن يقول قائد البحرية الألمانية، معلقاً على التهديد الروسي، إنَّ «بوتين يستحق الاحترام… بحق السماء أعطوه ذلك لأنه أقل الأثمان! بل إنه دعا إلى تحالف الغرب مع روسيا ليكونوا ضد الصين».

لا عجب إذن أن يحشد بوتين قواته، ولا غرابة أن يقول لقادة أميركا وأوروبا علانية هذه مطالبي: استجيبوا وإلا سأغزو أوكرانيا؛ ولا عجب إن رأينا بعد ذلك الصين تغزو تايوان لاسترجاعها إلى الوطن الأم، أو رأينا إيران تغزو دولاً عربية بحجة المظلومية التاريخية!

شاهد أيضاً

مسعى ميلوني الأخير في تونس

بقلم: أحمد نظيف- النهار العربيالشرق اليوم– قبل حضورها اجتماع المجلس الأوروبي الأربعاء المقبل في بروكسل، …