الرئيسية / مقالات رأي / الزعامة في العالم العربي.. التجربة التونسية

الزعامة في العالم العربي.. التجربة التونسية

بقلم: جميل مطر – صحيفة “الخليج”

الشرق اليوم – شهر يمرّ بعد شهر، وشكوى الناس في تونس من السياسة تزداد تردداً. جربوا الديمقراطية بعد مدة طويلة من حكم غير ديمقراطي. عشت معهم مرحلة من مراحل حكم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. لم أشكُ، ولا كانوا يشكون. فواقع الحال كان يشهد أن هؤلاء الناس لم يعرفوا من قبل نظاماً غير هذا النظام، ولا حاكماً غير هذا الحاكم. خرجوا من الاستعمار ليجدوا الرجل في انتظارهم وفي وعيه يتردد صدى قناعته أنهم خرجوا من الاستعمار على يديه. لولاه ما كان الاستقلال، ولا كانت تونس الحديثة. كان زعيما مذهلاً. خفيف الظل، يأخذ نفسه بمنتهى الجدية، حتى وهو يسخر بنفسه على نفسه، وعلى القريبين منه، وعلى بعض المواقف في مسيرته السياسية.

تعرفت إلى بعض هذه الجوانب في شخصيته من خلال مناسبات مختلفة. سمعت عنه، وقرأت قبل أول زيارة لتونس العاصمة، وكانت قصيرة جداً. ذهبت إلى هناك في صحبة الصحفي اللامع فعلاً وواقعاً، محمد حسنين هيكل، بعد أن ترك الأهرام مباشرة. سافرنا بدعوة من الرئيس شخصياً، بعد أن أبلغه أصدقاؤه في القاهرة عن كتاب يزمع هيكل كتابته عن العالم العربي، إثر مقابلات يجريها مع عشرين رئيس دولة عربية، من ملوك وأمراء ورؤساء، استظرفت سيرة الزعيم قبل أن أسمعه يكرر أمامنا بكل الاعتزاز والسخرية الذاتية مواقف له ونوادر خلال رحلة كفاحه ونضاله من أجل تونس.

بدأ، وهكذا يبدأ في العادة الزعماء من نوعه، بدأ بالهجوم. ففي رأيه أخطأ «الأهرام» في حقه على امتداد عهد الثورة. لم تحظ مكانته كزعيم باعتراف الإعلام المصري. قال ما معناه أنه كان واثقاً من حب شعبه له، حتى أنه دعا عبدالناصر لزيارة تونس، وأقام للحفاوة به في مدينة بنزرت مؤتمراً شعبياً حضره عشرات الألوف. أضاف أن الناس كانوا يهللون، وظن عبدالناصر أن الهتافات وعبارات الترحيب الصادرة عن الجماهير كانت له. وقال إن عبدالناصر لم يدرك ساعتها أنها كانت لزعيمها، وليست له. لم ينس بورقيبة، كما لم ينس في مقابلاته العديدة مع زوار عديدين، أن يحكي حكايته مع الجندي المصري المكلف بحراسة حاجز المرور في مدينة السلوم على الحدود مع ليبيا خلال مرحلة كفاحه ضد الاستعمار الفرنسي ولجوئه إلى مصر. أوقفه الجندي لعدم وجود ثبوتات شخصية. غضب بورقيبة بشدة وراح يصرخ في وجه الجندي الذي لم يتعرف للوهلة الأولى على شخص «سي الحبيب بورقيبة» الزعيم الكبير. وطلب أن يتحادث هاتفياً مع وزير الداخلية الذي أمر الضابط المقيم بالسماح للمناضل التونسي بدخول الأراضي المصرية.

الحديث عن، أو مع، أول رئيس لتونس لا يمل. أذكره وهو يطل علينا من شاشة التلفزيون في الثامنة إلا خمس دقائق كل ليلة. يحكي في كل حلقة حكاية جديدة أكثر تشويقاً وصراحة من حكاية الليلة السابقة. اهتم بورقيبة بأمرين على وجه التحديد. أهتم بالنساء وحقوقهن، وبالشباب وأحلامهم. أما النساء فعاش فخوراً بما صنع من أجلهن، وللشباب يحضهن على التمرد، ومن أقواله المأثورة ما تضمنته الدعوات المتكررة على لسانه للشباب بالخروج مع السائحات اللائي يأتين إلى تونس بفضل تسهيلاته للسياحة، وعلى وجه خاص الفرنسيات، مذكراً إياهم بزوجته الفرنسية التي أنجبت له ابنه الوحيد.

رحل بورقيبة، وبقيت تونس. أزيح عن الحكم وكان لإزاحته ما يبرره. إذ تكررت شهادات زواره ومساعديه عن ضياع ذاكرته، وفقدانه الصواب في قرارات حكم عدة. إلا أن للسياسة أحكاماً. جاء زين العابدين بن علي. ظن أنه، وقد حل محل زعيم محبوب، سوف يأتيه الحب طواعية. لم يأت الحب بل الشكوى. تراكمت الشكوى حتى صارت غضباً انفجر تمرداً ضد الحاكم، وزوجته، وعائلتها التي قيل إنها تغوّلت فساداً، وضد نخبة الحكم بأسرها. تطور التمرد فصار ثورة سوف يسجل التاريخ لها أنها كانت كشرارة أشعلت سلسلة من الانتفاضات والثورات في دول أخرى. جربت تونس امتداداً لثورتها نظاماً ديمقراطي الشكل، وليس الجوهر. هلّل له العالم الغربي، وبكثير من التطبيل فرضه نموذجاً لديمقراطية عربية يجب أن تُعمم. كنت أحد القليلين الذين لم يطمئنوا لمستقبل هذه الديمقراطية، والسبب أنها جاءت محمولة على أكتاف جماعتين غير مدرّبتين على العمل الديمقراطي، أو بالقول الصريح غير معروف عنهما نوايا طيبة تجاه النظام الديمقراطي الحقيقي. كانوا إما ذوي رؤى دينية متطرفة سياسياً، وإما من بين من نشأ وتربّى سياسياً في حضن النظام الفردي.

هؤلاء انتظروا ونالوا. أتى إليهم الحكم، وأكثرهم غير مدرب، أو فاسد، حتى جاء من خارجهم رئيس منتخب لم يعجبه حال تونس في ظل هذه الديمقراطية الجوفاء. كان قيس سعيّد يدرّس في الجامعة أسس وقواعد النظام الديمقراطي ضمن محاضراته في أصول ومبادئ القانون الدستوري. ما وجده في انتظاره لا يتطابق أو يتقابل مع الأصول والمبادئ التي كان يلقنها للطلبة. ولكنه، وللحق الذي يجب أن يقال، لم يكن يمتلك، عندما وصل إلى القصر في قرطاج، ولو ذرة من خبرة العمل السياسي. 

والسياسة حرفة، من لا يمتلك نواصيها ويعرف مواقع مطبّاتها ويجيد أساليبها يضيع في مسالكها، أو يتعب، ويرهق، فيغضب ويتأخر فينفضّ عنه الناس في نهاية الأمر. عندئذ يكتشف الجميع أنهم الخاسرون. وعندئذ يلجأ كبار السن من «التوانسة» إلى ممارسة هواية المقارنة بين زعيم ساخر طول الوقت، وخفيف الظل، وطيب المعشر، وغير منتخب، ومستبد ولكن بنعومة، وبين رجل منتخب لم يعرفه الناس من قبل، رجل لم يناضل، أو يقُد، ولا يتحلى بسمات الزعامة، لا يوصف بخفة الظل، ولا ينتمي بالعمر أو بالتجربة لعصر الدهاة من بناة الأمم. صادق، ولكن في زمن أغبر. هؤلاء، وقد تحدثت طويلاً مع نفر غير قليل منهم، يكتشفون متأخرين أن الديمقراطية الحقة لا تأتي بالنوايا الطيبة وحدها، ولكن معتمدة على تراث وخبرة، وكلاهما للأسف غير متوافر في معظم أنحاء العالم العربي.

شاهد أيضاً

الأمل المستحيل لإسرائيل

بقلم: عاطف الغمري – صحيفة الخليج الشرق اليوم- عندما يطرح مركز بحوث أمريكي مؤيد دائماً …