الرئيسية / مقالات رأي / أوروبا في الميزان فأين يقف بايدن؟

أوروبا في الميزان فأين يقف بايدن؟

بقلم: سمير التقي – النهار العربي 

الشرق اليوم – حالة عميقة من عدم اليقين تحيط بالوضع في أوروبا. السؤال لم يعد متعلقاً بحقيقة ما تريده روسيا في نهاية المطاف، فلقد أوضحَت ما تريده بشكل كافٍ من خلال المذكرتين اللتين قدمتهما إلى حلف شمال الأطلسي والإدارة الأميركية. 

إنها ببساطة تتطلع إلى إعادة الوضع الاستراتيجي في أوروبا إلى ما كان عليه أثناء الحرب الباردة، وأن يقوم حلف شمال الأطلسي بإزالة كامل البنية التحتية العسكرية التي رسخها في بلدان أوروبا الشرقية بعد عام 1997، كما تطالب بعدم قيام الحلف بأي نشاط عسكري خارج أراضيه في أوروبا الشرقية، وآسيا الوسطى، وأوكرانيا، وجورجيا، وأرمينيا، وأذربيجان. وتريد موسكو أن يكون لها “حق النقض الفعال” تجاه السياسات الخارجية والأمنية للدول التي تفترضها ضمن فلكها الاستراتيجي، وأن “تحجم الولايات المتحدة عن تطوير تعاون عسكري ثنائي مع هذه الدول”، بل تطالب روسيا بأكثر من ذلك، وبأن “تحجم عن نشر أسلحة أو قوات خارج أراضيها حيثما تعتقد روسيا أن هذا الانتشار تهديد لأمنها القومي”. 

المعضلة في هذه المطالب ليست في عدم واقعيتها الراهنة، بل الأهم في كونها أبعد من الجوانب العسكرية الاستراتيجية. ففي نهاية الأمر ليست لدى أحد أية رغبة في تهديد روسيا أو رفع مستوى الردع ضدها. فحتى حين كانت روسيا في أضعف لحظاتها، لم تقدم الدول الغربية على محاولة غزوها. لذلك يمكن تصور تقديم تنازلات متبادلة جدية لخفض التصعيد. 

لكنّ ثمة أبعاداً أخرى تجعل الأمر في غاية التعقيد. ذلك أن المطالب العسكرية الاستراتيجية الروسية تحاول أن تتيح لموسكو أن تنفرد بتغيير ميزان الردع الاستراتيجي في أوروبا بحيث يمكن بشكل تدريجي توسيع المظلة الاستراتيجية الروسية فيها. وهي تعمل على تحقيق ذلك عملياً من خلال تطوير أنماط جديدة من الأسلحة الصاروخية خارج إطار معاهدات ضبط الصواريخ، بل هي عملياً تبدل بشكل خطر موازين الردع الاستراتيجي في أوروبا. لا يمكن لا للولايات المتحدة ولا لأوروبا أن تتجاهلا هذه المخاطر. 

لكن الأهم في هذه المطالب ليس جانبها العسكري، بل السياسي. بالأصل لا تنظر القيادة الروسية إلى الدول التي كانت تدور في فلكها على أنها دول مستقلة ذات سيادة كاملة. بل تصرح بوضوح بمطالبها بالهيمنة على القرارات السيادية لمجمل هذه الدول. وتشهد بذلك لا مقالات او أبحاث الأكاديميين الروس فحسب، بل والمقالات والتصريحات المباشرة للرئيس الروسي بوتين. 

وحتى لو تعلق الأمر بتقديم تنازلات لروسيا في ما يخص التهديدات التي يتصورها بوتين، ثمة تناقضان جوهريان بين الرؤية الأيديولوجية والاستراتيجية للغرب وأميركا وبين النموذج الراهن للدولة الروسية. 

التناقض الأول هو تناقض في نموذج الدولة. الولايات المتحدة قامت على مبدأ إطلاق منقطع النظير للحرية الفردية مقابل تقزيم دور الدولة، والتعظيم الأقصى لتنمية قدرات القطاع الخاص. هذا النموذج الاقتصادي – الاجتماعي – السياسي سمح لها بتحقيق ما حققت من تمركز هائل لرؤوس الأموال، وتعظيم دور الدولار وموثوقيته. يتناقض هذا النموذج تماماً مع نمط رأسمالية دولة المحسوبية الأوليغارشية السائد حالياً في روسيا.

إذ إن لدى روسيا تاريخاً طويلاً معاكساً تماماً. فلطالما نظرَت إلى نفسها كدولة عظمى ذات رسالة تاريخية. لذلك ومن أجل تحقيق هذا الدور الرسالي، وتخطي النواقص الموضوعية في جغرافيتها ومجتمعها وبنيتها وتعظيم إمكاناتها، كانت تلجأ دوماً إلى تعظيم دور الدولة وأجهزتها في السياسة والاقتصاد بشكل ورمي مستشرٍ. ولا شك في أن امتداد النموذج الغربي يشكل تهديداً لهذا النمط من رأسمالية الدولة. وطبيعي أن ترى الأوساط الحاكمة في روسيا في كل تحول ديموقراطي في محيطها تهديداً لنموذجها ومكاسبها أخطر بكثير من التهديد الجيواستراتيجي العسكري. لذلك فلو تمكنت روسيا، افتراضاً، من فرض فيتو على القرارات الوطنية فلن تكون القصة مجرد خفض الردع الاستراتيجي للغرب، بل وقبل كل شيء ستكون قادرة سياسياً على التدخل لمنع النزعات الليبرالية ومكافحتها.

التناقض الثاني يكمن في حقيقة أن الولايات المتحدة تبني استراتيجيتها الكونية على منع أي من الأعمدة الاستراتيجية في أوروبا من التفرد بالسيطرة عليها، وهذا يتناقض مع القاعدة الجوهرية للاستراتيجية الروسية الدائمة والقائمة على بناء مناطق نفوذ دائمة للهيمنة في أوروبا. 

حقيقة الأمر هنا أن بوتين لا يرى نفسه فائق القوة، لكنه يراهن على عوامل عدة أولها أنه نجح في تشجيع وصول عدد من الزعماء الشعبويين وبذلك يمهد الطريق من الداخل الأوروبي لتقبل مطالبه. وهو بذلك يراهن على وهن الإرادة الأوروبية الجمعية وصعوبة توحيد استراتيجياتها، بل وإمكان المضي قدماً في تقسيم أوروبا. ويراهن بوتين من جهة أخرى على روح التخلي الأميركية التي كثيراً ما حدثت تجاه الدفاع عن قضية الديموقراطية لمصلحة اعتبارات أميركية أخرى، ناهيك بالمعضلات الداخلية التي يواجهها الرئيس بايدن. 

إذن ثمة إمكان واقعي لخفض التوتر عبر خفض مستوى التهديد العسكري الاستراتيجي المتبادل مع الاحتفاظ التام بحق شعوب أوروبا الشرقية في اختيار حلفائها. لكن السؤال السائد في واشنطن هو إذا كانت روسيا مستعدة لمتابعة خفض التوترات بشروط قد يقبلها حلف شمال الأطلسي أو تبقي خياراتها العسكرية لمهاجمة أوكرانيا مفتوحة. وفي وقت يكرر الرئيس بوتين تهديده بـ “الخيارات الأخرى” يرجح الكثيرون أن يتم غزو أوكرانيا بقوات غير نظامية في شباط (فبراير) المقبل. 

ويشكل هذا المنعطف اختباراً جوهرياً للعالم الليبرالي، وبالنسبة إلى إدارة بايدن أولاً وأخيراً. اختبار لقدرتها على درء الحرب وتهدئة بوتين الجامح عبر تغيير حساباته الاستراتيجية من جهة، وقدرتها على تعزيز التحالف الغربي ودعم قدرة أوكرانيا على أن تكون لقمة صعبة بالنسبة إلى روسيا وتعزيز التحالف الأطلسي، من جهة أخرى. 

في نهاية الأمر لا شيء وحد أوروبا بعد الحرب الثانية بقدر تهديدات ستالين، لكن السؤال ليس محسوماً هذه المرة طالما بقيت المعركة بين الليبرالية والأوليغارشية مفتوحة في أوروبا.

شاهد أيضاً

إيران وإسرائيل… الحرب والحديث المرجّم

بقلم عبد الله العتيبي – صحيفة الشرق الأوسط الشرق اليوم- ضعف أميركا – سياسياً لا …