الرئيسية / مقالات رأي / الشّارع الرّمز

الشّارع الرّمز

بقلم: أسامه رمضاني – النهار العربي

الشرق اليوم- عادت الحياة بسرعة إلى مجراها الطبيعي في شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة التونسية يوم الجمعة الماضي، على إثر حادثة إرهابية أصابت بالذعر مرتادي الشارع المزدحم بالمارة.

وكان الاضطراب قد عمّ الشارع، عندما أشهر شاب تصنفه الأجهزة الأمنية بين العناصر التكفيرية الخطرة فأساً وسكيناً، قبل أن تتم السيطرة عليه بعدما أطلق أحد رجال الشرطة النار على رجليه. 

 يقول عالم الاجتماع المختص في الظواهر الإجرامية سامي نصر إن الهدف الذي قد يكون سعى إليه العنصر المتطرف من وراء تهديداته، هو  التذكير بأن الحركات المتطرفة ما زال لها وجود في البلاد، رغم الهزائم المتلاحقة التي مُنيت بها خلال الخمس سنوات الأخيرة، بعد نجاح العمليات الأمنية الميدانية والتحركات الاستباقية لأجهزة الاستخبارات.

إلى حد ما، نجح العنصر التكفيري في مبتغاه إذا كان جذب الانتباه هو ما كان يسعى إليه. حظيت تحركاته المضطربة باهتمام الرأي العام لدقائق طويلة، بفضل الصور وتسجيلات الفيديو التي نقلتها المنصات الاجتماعية الى الرأي العام عن شهود العيان في الشارع.

 لم يكن المسلح أول عنصر متطرف يستعرض مؤهلاته الدموية في شارع بورقيبة. ولذلك سبب واضح. فالمكان أضحى المسرح الأفضل لاختطاف الأنظار، ولو كان ذلك بالعنف والإرهاب. 

 البعض من الذئاب المنفردة أو ما يشبههم نفذوا عمليات انتحارية في السابق (أودت بحياتهم، هم قبل غيرهم) وآخرها في عامي 2018 و2019، تناثرت فيها أشلاؤهم وسط الطريق العام. 

حتى من دون اللجوء إلى العنف، حاولت حركات سلفية سنة 2012 الترويج لشعاراتها باحتلال أعلى الساعة المشيدة فوق البرج الواقع في مدخل شارع بورقيبة، ورفع “أعلام الخلافة” فوقها. عرفت الواقعة “بغزوة المنقالة” (المنقالة تعني الساعة بالعامية التونسية). لكن عقارب الساعة لم تتوقف ولا هي عادت إلى الوراء. 

وبقي شارع بورقيبة يستقطب كل التيارات السياسية في تظاهرات واحتجاجات، معظمها سلمي، تعكس ما يخالج الطبقة السياسية والناشطين في المجتمع من مشاعر ومواقف ومطالبات. 

نال شارع بورقيبة رمزية إضافية من خلال حوادث 14 كانون الثاني (يناير) 2011، وبخاصة التظاهرات التي انتظمت أمام مقر وزارة الداخلية الواقع في صدر الشارع، وهي تظاهرات سقط على إثرها (وإن لم يكن بالضرورة بسببها) نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي. 

سُميت الساحة التي تتوسطها الساعة العملاقة بساحة “14 يناير”. وتلت ذلك مطالبات من بعض التيارات “الثورية” (وتلك المعارضة أيديولوجيا لإرث بورقيبة الموسوم بالعلمانية)، بتغيير اسم الشارع من شارع بورقيبة إلى شارع الثورة. ولكن تلك المطالبات بقيت من دون صدى يذكر. فالمدافعون عن ذكرى بورقيبة ومكانته في تاريخ تونس المعاصر، لم يكونوا مستعدين للتخلي عن اسم الرئيس الأول للجمهورية من على لافتة الشارع ذي الرمزية الأكبر في تونس. ففي مطلع الاستقلال سنة 1956، حل تمثال بورقيبة محل تمثال لجول فيري، رئيس الوزراء الفرنسي السابق وأحد كبار المنظّرين للاستعمار. وأصبح الشارع يسمى شارع بورقيبة عوض شارع جول فيري.  

وزاد زخم المد الشعبي المتشبث باسم بورقيبة، بعدما عاد التمثال الذي يخلد ذكرى الزعيم التاريخي لمعركتي التحرير وبناء دولة الاستقلال إلى وسط الشارع الذي يحمل اسمه، سنة 2016، إبان حكم الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي.

وكان التمثال قد خرج من شارع بورقيبة سنة 1988، إذ نُقل إلى حلق الوادي إحدى ضواحي العاصمة خلال حكم بن علي.

بقي شارع بورقيبة خلال العشر سنوات الماضية فضاءً تتجمع فيه كل الأحزاب، ويلتقي فيه النشطاء الذين يمثلون مختلف ألوان الطيف السياسي والحركات الاجتماعية. احتضن شارع بورقيبة المدافعين والمدافعات عن حقوق المرأة والحريات. كما احتضن  الإسلاميين المتوجسين من اضمحلال “الهوية” وخصومهم الذين يرون في الإسلاميين أنفسهم “تهديداً للنموذج المجتمعي” المنفتح للبلاد. احتضن الشارع الجموع المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن مقتل الزعيمين اليساريين شكري بلعيد ومحمد البراهمي اللذين استشهدا سنة 2013. واحتضن تظاهرات النقابيين والعاطلين من العمل والمحتجين على تضييقات كوفيد.  

وهو اليوم يحتضن الجموع المساندة للرئيس قيس سعيد وتلك المعارضة له.  

حدثت أحياناً اشتباكات بين المتظاهرين وقوات الأمن، ولكن معظم الاحتجاجات كانت سلمية. وبقي المتظاهرون في حدود السلوكيات المدنية التي لم يتجاوزوها إلا نادراً، وفي حالات قليلة مثل تلك التي دفع ثمنها تمثال ابن خلدون عندما طلاه متظاهرون فوضويون بالدهان والشعارات.   

ولكن التظاهرات لم تحد في نهاية المطاف عن وظيفتها الأساسية كمتنفس هادئ للجميع، مهما كانت نزعاتهم ومشاربهم. ولكنها كانت أيضاً مرآة للأزمات التي تهز البلاد وتقسم التونسيين وهم عاجزون عن حل أزماتهم ذاتها.

الشارع فقد الكثير من بريقه نتيجة الأسلاك الشائكة التي تحيط بالمباني الرسمية والدبلوماسية، وعدم كفاية جهود التهيئة والتجديد. وهو يحتاج اليوم إلى جراحة تجميلية تزيل التجاعيد عنه. 

 ولكن حاله هي أيضاً انعكاس لحال العاصمة التونسية، إن لم يكن البلاد كلها، وهي التي ليس بإمكانها أن تبقى بمنأى عن شح الموارد المالية التي تحتاجها أي أشغال عمرانية كبرى. وليس لشارع بورقيبة وغيره من الشوارع في المدن الكبرى أن يبقى بمنأى عن مظاهر الفقر والبطالة والنزوح من المناطق الداخلية.

ولو كانت العاصمة وشارعها الرمز في أحسن حالاتهما، ما كانت بعض الأصوات لترتفع مقترحة تشييد عاصمة سياسية جديدة لتونس في قرطاج أو القيروان. 

ولكن المجال اليوم في البلاد التونسية، أمام الأزمة المالية القاسية التي تكبل كل الطموحات والمشاريع، ليس مجال التفكير في نقل العاصمة إلى أي مكان.

ويبقى شارع الحبيب بورقيبة، رغم مسحة الكآبة والتوتر التي يسبغها عليه أحياناً عنف المتطرفين الباحثين عن الأضواء، رمزاً حياً لديناميكية الحياة والتعبير عن الأمل، فيما هو أفضل في تونس العاصمة والدولة.

ويبقى الشارع عنواناً جامعاً يحرسه طيف بورقيبة حتى عندما تتلاطم حوله أمواج السياسة في تونس.

يبقى أيضاً في انتظار عملية التجميل التي تزيح الأسلاك الشائكة وتعطيه الرونق الذي تستحقه تونس العاصمة المفتوحة على الداخل والخارج.

شاهد أيضاً

روسيا التي لا تساند أحداً… علاقة غير عادلة مع إيران

بقلم: يوسف بدر – النهار العربي الشرق اليوم– في مقالته في صحيفة “وول ستريت جورنال” …