الرئيسية / مقالات رأي / The New York Times: بوتين لا يسعى لهدم الغرب

The New York Times: بوتين لا يسعى لهدم الغرب

بقلم: كدري ليك

الشرق اليوم- إذا أمعنتَ النظر في سلوك روسيا خلال الأشهر الأخيرة، ربما يخالجك اعتقاد بأن قيادات هذا البلد انطلقت على قدم وساق لتعطيل الغرب.

في سبتمبر (أيلول)، أطلّت شركة “فاغنر غروب” العسكرية الخاصة التي يوجد مقرها في روسيا، برأسها في مالي، الأمر الذي أغضب فرنسا بشدة. وفي أكتوبر (تشرين الأول)، قطعت روسيا العلاقات الدبلوماسية مع حلف شمال الأطلسي (الناتو). هذا الشهر، دفعت تقارير أفادت بأن روسيا حشدت ما يقرب من 100.000 جندي على الحدود مع أوكرانيا، الولايات المتحدة للتحذير من أن ثمة غزواً قد يكون وشيكاً. وفيما بين الحدثين، وقفت روسيا مكتوفة الأيدي بينما كان حليفها رئيس بيلاروسيا، ألكسندر لوكاشينكو، يدبر لأزمة مهاجرين على الحدود مع بولندا.

ومع ذلك، نجد أن الصورة في حقيقة الأمر أشد تعقيداً من ذلك، صحيح أن روسيا لا تزال تعد الغرب خصمها الرئيسي، لكن سياستها الخارجية تسترشد أكثر عن أي وقت مضى بالحاجة إلى تعلم كيفية العمل في عالم لم يعد يهيمن عليه الغرب. وباستثناء أوكرانيا -التي يبدو أن السيطرة عليها هدف شخصي للغاية للرئيس فلاديمير بوتين- يعمل الكرملين بحذر في عالم يعدّه متصدعاً ومعقداً.

ومع ذلك، دائماً ما يظن الغرب، الذي ينظر إلى روسيا على أنها خصم عنيد، بوجود مؤامرة حيث قد توجد فوضى. وفي الغالب، تقع موسكو في خطأ مشابه وتفترض أن الغرب يريد إسقاطها هي الأخرى. الحقيقة أن وجهات النظر التي عفى عليها الزمن، والتي تفاقمت جراء حالة العزلة التي تفرضها الجائحة، في غاية الخطورة، بل ربما تسفر، على أفضل تقدير، عن سوء فهم، وفي أسوأ الأحوال قد تُفضي إلى حدوث مواجهة. وعندما يكون هناك تهديد حقيقي بالتصعيد، كما هو الحال في أوكرانيا، ثمة أهمية بالغة لأن يرى كل طرف الآخر بوضوح تام…

في عالم الأمس، الذي كان يهيمن عليه الغرب، كانت الأمور مختلفة، ذلك أنه في مواجهة خصم واحد، عرفت روسيا ما تريد تحقيقه وكيفية تحديد أهدافها. في الحقيقة تنتمي جميع أفكار الانضمام إلى الغرب أو إسقاطه إلى الفترة الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية حتى صعود شي جينبينغ في الصين وصعود دونالد ترمب إلى رئاسة الولايات المتحدة وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. الآن، ترى روسيا أن العالم أصبح عن حق “متعدد الأقطاب” -أمر لا تجده ممتعاً.

ويبدو العالم الجديد فوضوياً للغاية لدرجة أن موسكو تبدو كأنها ترى أي تخطيط طويل الأمد غير مجدٍ. وخلال حديث دار بيننا، قال لي فيودور لوكيانوف، أحد كبار الخبراء في الشؤون الروسية، إن زعماء روسيا السابقين رأوا أن “التعددية القطبية” تدور حول “مواجهة الهيمنة الغربية”، أما فيما يخص بوتين، فإن المسألة “تتعلق بالتعامل مع العالم، وهو أمر بالغ التعقيد”. ومن أجل الإبحار عبر هذه التضاريس الأشد تعقيداً، تُجري روسيا تجارب على صعيد التدخلات شبه العسكرية، وتعتمد على تدابير محدودة أو مؤقتة، وغالباً ما تختار الاضطلاع بما هو أقل مقارنةً بما هو أكثر. وبطريقة أو بأخرى، هذا ما يفسر تورطها في مناطق الساحل والشرق الأوسط والقوقاز.

المؤكد أن هناك هدفاً وراء تحركات موسكو، لكن في العادة لا يتعلق الأمر بشكل مباشر بالغرب. بدلاً عن ذلك، يتعلق الأمر بالتكيف مع عالم تَشكَّل الآن بصورة أساسية من رحم المنافسة بين الولايات المتحدة والصين. لتجنب الوقوع بين الاثنين، تأمل روسيا في بناء نفوذ إقليمي لها -في غرب أفريقيا والشرق الأوسط والبلقان- سعياً لتعزيز قدرتها على المساومة من أجل المستقبل الذي تحيطه الشكوك (بالتأكيد، يبقى الغرب عُرضة للتأذي).

على سبيل المثال، ربما بدأ تورط روسيا في سوريا كمحاولة للحيلولة دون سقوط نظام بشار الأسد -الأمر الذي اصطدم بالفعل بموقف الغرب، لكن في الوقت الراهن أصبح الأمر يتعلق بالنفوذ الإقليمي والامتيازات التي يجلبها، ومن بينها المكانة كوسيط قوي على الساحة العالمية والتنسيق مع المملكة العربية السعودية عند اتخاذ قرار بشأن حصص إنتاج النفط. في المقابل، نجد أن الغرب، الذي لا يزال مهووساً بالصورة القديمة لروسيا كخصم ماكر، يفتقر إلى القدرة على استيعاب الجزء الأكبر من هذا التفكير.

اللافت أن القراءة الخاطئة تسير في كلا الاتجاهين، ذلك أن روسيا هي الأخرى تنسب دوافع قديمة إلى الغرب، وترتبط أكثر المفاهيم الخاطئة لديها بالاتحاد الأوروبي. اللافت للنظر أن مؤسسة السياسة الخارجية في موسكو، على ما يبدو، قد استنتجت في الغالب أن الاتحاد الأوروبي حاول، على نحو استباقي، استغلال الناشط المناهض للفساد ألكسي نافالني، للعمل بالوكالة من أجل تدمير النظام السياسي في روسيا. اتهام خاطئ بطبيعة الحال.

من جانبها، ردت أوروبا على تطورات الأحداث على النحو الوحيد الممكن -وذلك بتوفيرها العلاج الطبي لنافالني، الذي جرى دس السم له في أغسطس (آب) من العام الماضي، والتعبير عن استيائها بعد اعتقاله لدى عودته إلى روسيا.

ودعونا ننظر هنا إلى زيارة جوزيب بوريل، رئيس شؤون السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، لموسكو مطلع فبراير (شباط) في أعقاب اعتقال السيد نافالني، الأمر الذي فسره الكثيرون في موسكو على أنه قدوم أوروبي آخر لإلقاء محاضرة على روسيا حول كيفية تنظيم شؤونها الداخلية.

ومع ذلك، فإنه في الواقع، كانت زيارة بوريل مدفوعة بتوجه معاكس تماماً في تفكير أوروبا، ويدور حول فكرة أن على الاتحاد أن يقبل على مضض روسيا كما هي، وأن يسعى للتعاون معها حيثما أمكن ذلك. ومع ذلك، ظل الانطباع الخاطئ قائماً داخل روسيا. وتنظر موسكو إلى الاتحاد الأوروبي في الوقت الراهن بوصفه قريباً للغاية من أن يكون قوة معادية يستحيل معها استخدام لغة مشتركة.

على الجانب الآخر، نجد أن وجهة نظر إزاء الولايات المتحدة تتسم بتشوهات أقل في الوقت الحالي، وذلك بفضل نجاح الرئيس بايدن في إقناع موسكو بأنه يختار معاركه بحكمة، ويمتنع عن محاولة تغيير روسيا وأنه يركز بدلاً من ذلك على مجالات، مثل الاستقرار الاستراتيجي، تسمح في إطارها المصالح المتداخلة بمساحة لخلق أهداف مشتركة. جدير بالذكر في هذا الصدد أنه خلال مؤتمر عُقد في وقت قريب، تحدث بوتين بشكل ودّي عن المحادثات التي بدأت بعد قمة جنيف في يونيو (حزيران) وعن بايدن شخصياً.

المؤكد أن القراءة الرديئة أمر خطير، فرغم أن التوترات بين الجانبين حالياً بعيدة عن الذروة التي سبق أن بلغتها بين عامي 2014 و2016 عندما كانت العلاقات بين الغرب وروسيا محفوفة بالمخاطر بشكل خاص، تظل الحقيقة أن ثمة توترات لا تزال تشوب العلاقة بين الجانبين. وقد أسهمت المعلومات المضللة والحرب الإلكترونية والتدخل الانتخابي في خلق جو من الشك المتصاعد. وفي أوكرانيا، التي يشعر الكرملين باهتمام بالغ بها ولديه توقعات غير واقعية ومخاوف غير منطقية بشأنها، ثمة أسباب حقيقية تدعو للقلق.

وهذا بدوره يزيد أهمية القراءة الصحيحة للنيات. وإذا تمكن كلا الجانبين من النظر بعضهما إلى بعض بعيون رصينة، سيصبح من الممكن تحقيق بعض التعاون المحدود وإطلاق رسائل فاعلة. أما البديل، فيتعذر على المرء مجرد التفكير به.

شاهد أيضاً

عند الأفق المسدود في غزة

بقلم: عبدالله السناوي – صحيفة الخليج الشرق اليوم- استغلقت حرب غزة على أي أفق سياسي …