الرئيسية / مقالات رأي / وداع يليق بزعيمة العالم الحرّ

وداع يليق بزعيمة العالم الحرّ

بقلم: كرم نعمة – العرب اللندنية

الشرق اليوم- لا تكفي زياراتي إلى ألمانيا أكثر من عشر مرات أغلبها في السيارة في عهد أنجيلا ميركل، كي أكون جديرا أمام نفسي لابتكار وداع لغوي يليق بزعيمة العالم.

كما لا أعتقد أن الألمان والأوروبيين معا سيجدون أكثر من الخطابات المعبرة بحق في وداع هذه السيدة، وهم يدركون في قرارة أنفسهم أنها جديرة بأكثر من ذلك.

ماذا عنا، هل يوجد أكثر من حب السوريين للمستشارة الألمانية؟ واحدة من أشهر الصور التي رفعت في التظاهرات التي اندلعت في دول عربية عدة، كانت صور ميركل بوصفها السيدة الأشرف والأخلص من السياسيين ورجال الدين الفاسدين من العراق حتى سوريا ولبنان إلى تونس وليبيا.

تقابل هذه الصورة الاحتفائية صورة أخرى لفقها اليمين الألماني المتطرّف عندما ألبس ميركل حجابا! لكن التاريخ لن يلتفت لهذه الصورة بقدر اهتمامه بصور سيلفي للاجئين سوريين مع المستشارة الألمانية. أما صورتها وهي تقطع الشاورما في أحد المطاعم العربية في برلين فستبقى بمثابة أيقونة معبرة عن القبول الألماني للآخر وكسر حرب الثقافات المتصاعدة داخل المجتمعات الأوروبية.

في أكبر الميادين الألمانية علقت منذ أسابيع صورة لسترة خضراء مع جملة “وداعا، وداعا… أمي”. فحتى من دون وجه يعرف الألمان من تفضل تلك السترة وبذلك اللون كتعبير عن شخصيتها الاجتماعية والسياسية معا. حتى بات العالم لا يرى ميركل إلا بسترتها.

وبعد ستة عشر عاما تقول ألمانيا لأيقونتها الأوروبية وداعا ممزوجة بالحنين ومشوبة أيضا بالتهكم والقلق مما ينتظرها.

وداع ميركل من شعبها ومن الشعوب الأخرى التي أحبتها لا يشبه إرهاق قلق الوداع المستمر في الحياة. فأنت تودع من تعرفه في أسرتك، لكن العالم برمته يعرف أنجيلا وإن لم يرها وجها لوجه! وهو وداع لا يشبه بأي حال من الأحوال وداع أي زعيم وسياسي مرّ على البلدان الديمقراطية.

يقول مانفريد غولنر، رئيس وكالة فورزا لاستطلاعات الرأي “ستترك وراءها فراغا. يشعر الناس بعدم الأمان الشديد. فعلى مدى 16 عاما أعطت الناس إحساسا بالأمان وبالاستقرار والاستمرارية”، مضيفا “لقد شعر الناس أنها تعتني بهم، وتحرص على عدم تأثير الأزمات كثيرا في حياتهم اليومية. لقد كانت شبكة أمان”.

بالنسبة إلى السيدة ميركل فإن الخروج الهادئ يبدو مناسبا. لكنه يكشف أيضا عن مفارقة في حكمها. فالصفات التي ضمنت نجاحها: حذرها وثباتها وحزمها واجتهادها وبراغماتيتها العقلانية العنيدة. هي الآن موضع اختبار وترقب للألمان والأوروبيين معا بالنسبة إلى من يشغل وظيفتها.

فمن خلال تحالفات كبرى وفي ظل حكمها ألغت الدولة الخدمة العسكرية الإجبارية، وقدمت حدا أدنى للأجور، وسمحت بإجازة أبوية ممتدة، ووسعت مخصصات رعاية الأطفال بشكل كبير. لقد أصبحت البلاد أكثر انفتاحا على التأثيرات الأجنبية والرؤى البديلة للمجتمع والأسرة. بينما حذرت ميركل في آخر فعالية سياسية لها بأن ألمانيا لا يمكنها أن تعيش بشكل جيد إلا إذا استخدمت رخاءها أيضا من أجل الأمن.

لكن على مستوى آخر بات المزاج السياسي في عصر ميركل أكثر سخونة. على الرغم من أن ألمانيا ليست مستقطبة بالفعل مثل الولايات المتحدة، إلا أنها شهدت تصعيدا مقلقا في العنف السياسي. بينما كان اليمين المتطرف أكثر جرأة في رفع صوته.

وعلى الرغم من هدوئها، لم يكن الوقت الذي تولته ميركل يخلو من الاضطرابات. لقد قادت ألمانيا خلال سلسلة من الأزمات من الانهيار المالي عام 2008، وأزمة ديون اليورو التي أعقبت ذلك، ثم استقبال المهاجرين في عام 2015، وبالطبع الوباء وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

مثلت عباراتها الشهيرة أثناء أزمة الهجرة “يمكننا فعل ذلك” بالنسبة إلى البعض جرعة من التفاؤل وكانت موضع ترحيب. لكن بالنسبة إلى آخرين، ليس أقلهم في حزبها، كانت أشبه بإملاءات متعالية لإسكات المعارضة وتقليص النقاش.

لقد رأت ميركل، دونالد ترامب يأتي ويذهب. كأكثر الأحداث التي يمكن أن تشوش العالم. ومع ذلك بقيت محتفظة برباطة جأشها أمامه “هل تتذكرون الصورة التي تحاصره فيها على الطاولة وهو جالس أمامها كتلميذ مطيع”.

لطالما كانت أنجيلا ميركل مترددة في تلخيص إرثها. قالت ذات مرة لصحيفة فايننشيال تايمز البريطانية “لا أفكر في دوري في التاريخ. إنني أقوم بعملي”. لكنها اختصرت لاحقا فلسفتها في القيادة ومواجهة الأزمات بجملة شهيرة “الحياة دون أزمات ستكون بالطبع أبسط، لكن عندما تظهر لا بد من التغلب عليها، فهذه الأزمات التي يأتي الكثير منها من الخارج، تُظهر أن الألمان جزء من كُليّة عالمية”.

وفي آخر زيارة لها إلى لندن، التي كانت بمثابة وداعية استقبلها بوريس جونسون في مكتبه مثل أي صديقة وهو يخاطبها مرحبا أنجيلا. وعندما توجهت لقصر باكنغهام، بدت ملامح وجهها طفولية أكثر مما ينبغي وهي تلقي التحية على الملكة إليزابيث الثانية. كانت زيارة شخصية بامتياز للمرأة القوية بلطف سياسي غير معهود.

قبل عامين فقط تم تكريم ميركل كزعيمة للعالم الحرّ في مواجهة الفوضى والاضطراب الذي تسبب به ترامب، كان أسلوبها الرصين والحكيم موضع حسد على نطاق واسع.

أنا شخصيا غير مهتم بالجدل الذي تثيره مقالات متفذكلة تشكك بسياسات ميركل بوصفها أضرت أكثر مما نفعت، دعك من استطلاعات الرأي التي تزعم أن غالبية الألمان لن يفتقدوا مستشارتهم. فيكفي أن ألمانيا حافظت على طبيعة أعمالها في أوج الأزمة الاقتصادية التي هزت العالم. عندما لم يتراجع ازدهار البلاد وتماسكها. لم يكن إنجازها العظيم ما بنته فقط، بل ما تمكنت من الاحتفاظ به، وهذا وحده يمثل درسا سياسيا لمن يسعى إلى الحوكمة الرشيدة.

وهي تغادر موقعها ستكون أنجيلا ميركل المثال السياسي الذي يحتاجه التاريخ كلما صدق في سرد مدونته. ومع أي تطور تاريخي ستكون الحاجة ماسة لصفات مختلفة. ومثل كثيرين يمكن لي أن أتوقع لحظات فاصلة في المستقبل تبدو فيها آنذاك الحاجة عاجلة لجملة كم نحتاج ميركل اليوم، وكم نفتقدها بشكل مؤلم. دعوني أزعم بأنني متأكد من ذلك!

شاهد أيضاً

بأية حال تعود الانتخابات في أمريكا!

بقلم: سمير التقي – النهار العربي الشرق اليوم- كل ثلاثة او أربعة عقود، وفي سياق …