الرئيسية / مقالات رأي / فاغنر في الأفق.. قوات خاصة أم جيوش جرارة؟

فاغنر في الأفق.. قوات خاصة أم جيوش جرارة؟

بقلم: علي الصراف – العرب اللندنية

الشرق اليوم- “لا أرحمك، ولا أدع رحمة الله تنزل عليك”، سياسة ابتزاز غربية مألوفة تجد لها كل يوم مثالا جديدا.

الولايات المتحدة تسحب بطاريات باتريوت وثاد من السعودية، رغم معرفتها بأن هذا البلد يتعرض لهجمات صاروخية متواصلة من جانب الميليشيات التابعة لإيران في اليمن. ولكنها لن ترضى أن تمضي السعودية فتسعى لبديل دفاعي من روسيا.

فرنسا تفعل الآن الشيء نفسه مع مالي في مواجهة جماعات الإرهاب. فهي تسحب قواتها من هناك، ولا ترضى بأن تتعاقد الحكومة الانتقالية في هذا البلد مع مجموعة “فاغنر” الأمنية الخاصة الروسية للمساعدة في التصدي لهجمات داعش والقاعدة.

وهناك سجال يجري الآن بين البلدين حول ما إذا كانت حكومة مالي تستطيع أن تختار بين قوات فرنسية منسحبة، وبين الاستعانة بقوة أمنية خاصة تحل محلها.

ولئن أثبتت التجربة العملية أن الجيوش الضخمة آخر ما يمكن الاعتماد عليه في مواجهة عمليات الإرهاب، فالحقيقة هي أن مجموعات أمنية خاصة هي وحدها الحل.

إنها حل منطقي ومتوازن، أكثر فاعلية وأقل كلفة. ولو أن الولايات المتحدة وفرنسا اعتمدتا عليه في مواجهة جماعات الإرهاب، فإنهما كانتا ستحققان فوزا أسرع بكلفة أقل، من دون أن تضطرا إلى تحريك جيوش جرارة.

مَنْ الذي كسب الحرب ضد داعش؟ مَنْ الذي كبدها أول هزيمة على الأرض؟

الذين فعلوا هم المقاتلون الأكراد في بلدة كوباني أولا، قبل أن يمتد تقدمهم حتى أسقطوا عاصمة “دولة الخلافة” في مدينة الرقة. وهم ميليشيات محلية مضادة. صحيح أنهم لا يعتبرون أنفسهم “مجموعة عسكرية أمنية”، لاسيما وأنهم يدافعون عن أرضهم ويقاتلون من أجل حقوق وطنية، إلا أنهم، من ناحية الفعالية العسكرية، والأداء الميداني أقرب إلى مجموعة مسلحة خاصة.

تلقى المقاتلون الأكراد دعما جويا ولوجستيا ثمينا، كما توفر لهم السلاح ووسائل التوجيه والإرشاد القتالية من جانب الولايات المتحدة التي تقود التحالف الدولي ضد داعش. ولكن أعمال القتال المباشرة تكفل بها المقاتلون الأكراد بأنفسهم، ولم يشاركهم جنود أميركيون.

حسابات توظيف الجيوش تختلف تماما عن حسابات توظيف المجموعات الأمنية. ولها غايات مختلفة.

تعبير “الإرهاب لا يواجه إلا بالإرهاب” مجرد تعبير سطحي ورديء المقاصد. إلا أنه ينطوي على مدلول عملي صحيح. بمعنى أنك لا تواجه مجموعة إرهابيين من 10 أشخاص أو عشرين بكتيبة دبابات. ولكنك تستطيع أن تلاحقهم بمقاتلين يقفزون من سطح إلى سطح ومن شارع إلى شارع

          تحريك الجيوش الجرارة يقصد، من بعض نواحيه، فرض الهيمنة ليس على أرض المعركة، وإنما على أرض السياسة وصنع القرار. كما أن الأعباء المادية التي يتم فرضها كبيرة للغاية.

الجيوش مفيدة، من دون شك، في مواجهة جيوش تقابلها. إلا أنها أقل فائدة من الناحية القتالية في مواجهة جماعات إرهابية متفرقة، ثابتة أو متحركة.

إذا توفر للمجموعات الأمنية الدعم التكتيكي والاستخباري المناسب، فإنها أقدر على المواجهة من كتائب عسكرية تقليدية.

كل الجيوش لديها مجموعات تعمل على هذا النحو، تسمى في الغالب “قوات خاصة” أو “مغاوير” أو نحو ذلك. هذه المجموعات ستكون هي النموذج الأمثل، إذا ما وُضعت خارج “عدّاد الخسائر” الذي يحسب له القادة العسكريون الحساب أمام قيادتهم السياسية، وهذه القيادة أمام شعبها.

ومثلما أن المال والمصالح التجارية والنفوذ الاستراتيجي، هي التي تدفع الدول الكبرى لتحريك جيوشها، من دون أن ترى في ذلك عيبا، أو ثلمة في ممارسات السياسة ولا أخلاقياتها المألوفة، فإن المال هو القضية بالنسبة إلى تلك المجموعات الأمنية الخاصة.

هم “مرتزقة” طبعا. هذه هي التسمية التي تشير إليهم بالعيب، وتسيء لسمعتهم. ومصدر الإساءة للسمعة هو الجيوش الغربية نفسها، ذلك لأنها ظلت تستخدمهم للأغراض القذرة من قبيل أعمال القتل العشوائية والاغتيالات السياسية وممارسة الانتهاكات وجرائم الترويع ضد المدنيين.

لا حاجة لأي سجال أخلاقي للتمييز بين نمط من المرتزقة وآخر. واحد صنعته وكالة المخابرات المركزية الأميركية لارتكاب الجرائم بالنيابة عنها، وآخر يحارب الإرهاب. ولكن المسافة بينهما شاسعة. وأهم ما في هذه المسافة هو “قيود التوظيف” التي يمكن للحكومات أن تضعها على نشاط هذه المجموعات.

وفي الواقع، فإن أفضل سبيل لمواجهة جماعات مثل الحوثي في اليمن هو الاستعانة بقوات أمنية خاصة تستطيع أن تتوغل في عمق مناطق انتشار تلك الجماعات، لتوجه لها ضربات لا تستطيع الجيوش التقليدية أن توجهها.

مجموعات الإرهاب المتحركة لا تُقاوم بمعسكرات ضخمة، ولا بدبابات، ولا حتى بطائرات لأنها هي ذاتها سرعان ما تُصبح هدفا سهلا.

أكثر ما يُزعج فرنسا من مجموعة “فاغنر” هو أنها روسية. وذلك على اعتبار أنها تابعة، بطريقة ما، للكرملين. وهذا غير صحيح.

توجد في بريطانيا مجموعات أمنية كثيرة. وتجد لبعضها مكاتب في الشوارع العامة لاستقطاب المقاتلين القدامى. ولكن لا أحد يستطيع الزعم أنها خاضعة لسلطة 10 داوننغ ستريت. لا شك أنها يمكن أن تسمع أو أن تتعرض للضغوط، مثلها مثل أي شركة أخرى. إلا أنها خاصة في النهاية، وما تقوم به ليس مسجلا في صالح حكومة البلد الذي تعمل فيه. ليس بالضرورة.

تعبير “الإرهاب لا يواجه إلا بالإرهاب” مجرد تعبير سطحي ورديء المقاصد. إلا أنه ينطوي على مدلول عملي صحيح. بمعنى أنك لا تواجه مجموعة إرهابيين من 10 أشخاص أو عشرين، يقفزون من سطح إلى سطح، ومن شارع إلى شارع، بكتيبة دبابات. ولكنك تستطيع أن تلاحقهم بمقاتلين يقفزون من سطح إلى سطح ومن شارع إلى شارع بالسرعة والمرونة القتالية نفسها.

التحالف الدولي ضد تنظيم داعش ضم أكثر من 70 دولة أرسلت جنودا ومستشارين عسكريين، بينهم خمسة آلاف جندي أميركي، والمئات من الطائرات، والآلاف من الآليات المدرعة. ولكن هزيمة داعش إنما كُتبت بأيدي المقاتلين من “وحدات حماية الشعب الكردية”.

في السادس والعشرين من يناير 2015 نجح أولئك المقاتلون في طرد داعش من مدينة كوباني، لتأخذ هزيمة داعش مسارا ثابتا، فطرد من مدينة منبج في أغسطس 2016، ثم طرد من مدينة الرقة في أكتوبر 2017. وفي سبتمبر 2018، قضت تلك الوحدات، التي صار أسمها “قوات سوريا الديمقراطية”، على آخر جيب للتنظيم في دير الزور. وفي الثالث والعشرين من مارس 2019، أعلنت تلك القوات “القضاء التام” على “خلافة” التنظيم.

هذا المسار إنما كان مسار “قوة خاصة”. لم يتمكن منها كل ما جندته 70 دولة من جيوش لمواجهة داعش. فلماذا تُلام حكومة مالي إذا استعانت بقوات خاصة؟ بل ولماذا تلام أي دولة إذا اتبعت السبيل نفسه في مواجهة الإرهاب؟


شاهد أيضاً

الأمل المستحيل لإسرائيل

بقلم: عاطف الغمري – صحيفة الخليج الشرق اليوم- عندما يطرح مركز بحوث أمريكي مؤيد دائماً …