الرئيسية / مقالات رأي / المشروع الوحدوي الأوروبي والمسألة السياديّة

المشروع الوحدوي الأوروبي والمسألة السياديّة

بقلم: احمد نظيف – النهار العربي

الشرق اليوم- عام 2018 وقف جان كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبية السابق، خطيباً عمّا يسمى “حالة الاتحاد”، داعياً إلى “ساعة السيادة الأوروبية”، أو كيف تصبح أوروبا أكثر استقلالية وقوة في إطار الوحدة. ومما قاله يومها وسط استبشار الأوروبيين: “يشكّل الوضع الجيوسياسي ساعة أوروبا هذه: لقد حان وقت السيادة الأوروبية. لقد حان الوقت لأخذ أوروبا مصيرها بأيديها. لقد حان الوقت لأن تطور أوروبا دورها في تشكيل شؤون العالم. يجب أن تصبح أوروبا جهة فاعلة ذات سيادة أكبر في العلاقات الدولية. تنشأ السيادة الأوروبية من السيادة الوطنية للدول الأعضاء ولا تحل محلها. إن تقاسم السيادة – عندما وحيثما دعت الحاجة – يجعل كل دولة من دولنا أقوى. هذا الاعتقاد بأننا متحدون هو جوهر ما يعنيه أن تكون جزءاً من الاتحاد الأوروبي”.

ومنذ ذلك الوقت لم تجر رياح التحولات العالمية العاصفة بما تشتهي سفن الاتحاد الأوروبي المفرقة وسط محيط دولي شديد الشراسة والتوثب. على العكس تماماً، شهدت السيادة الأوروبية الموحدة والسيادات الوطنية القطرية ـ إن جاز التعبير ـ مزيداً من الضعف والتفكك، في مقابل زحف قوى دولية تريد أن تحوز مكاناً في قلب العالم القديم. الصين، روسيا، والولايات المتحدة الحليف التقليدي لدول القارة العجوز. لتأتي “صدمة الغواصات” الأخيرة تجلياً واضحاً لترهّل النفوذ والتأثير الأوروبيين في مواجهة حتى أقرب الحلفاء. صدمة سماها وزير الخارجية الفرنسي بطعنة في الظهر، ولكنها في الحقيقة كانت تعبيراً واقعياً عن الحالة الأوروبية وسط حيتان الكون الثلاثة. فيما طرحت مزيداً من الأسئلة حول السيادة الدفاعية الأوروبية ومستقبلها.

منذ نهاية الحرب الباردة، لم تشعر معظم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بتهديد كبير. كانت مجتمعة ضمن أقوى تكتل عسكري دولي وهو حلف الناتو، وتحتمي وراء حماية الولايات المتحدة. لكن الصين الحازمة، وروسيا الصاعدة، وأميركا التي تركز على المحيطين الهندي والهادئ أكثر من أوروبا، ومجموعة من التهديدات غير المتكافئة من القوى الأخرى والجهات الفاعلة غير الحكومية، تعني أن معظم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تواجه الآن نقاط ضعف أمنية جديدة تفتقر في مواجهتها إلى مشروع سيادي وحدوي غير تابع.

في أيار (مايو) 2020، غرد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، غاضباً من بطء العديد من العواصم الأوروبية في الامتثال لتعليماته بنقل سفاراتها في إسرائيل إلى القدس، وهدد بسحب القوات الأميركية من أوروبا. ساد الارتباك. متى؟ كل القوات الأميركية أم بعضها فقط؟ لكأن أوروبا غير قادرة على حماية نفسها من دون وجود القوات الأميركية!! لا يبدو تهديد الرئيس الأميركي السابق مجرد انحراف موقت. فموقف ترامب ليس سوى مظهر حاد خاص للتطور المطرد للشراكة الأمنية عبر المحيط الأطلسي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، مع اختفاء التهديد الوجودي المشترك بين أوروبا والولايات المتحدة.

فقد بدأت مصالح الجانبين وطموحاتهما التباعد. كانت العلامات الأولى واضحة في تردد إدارة كلينتون الواضح في التورط في أزمات البلقان في التسعينات. ثم جاءت حوادث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) و “الحرب على الإرهاب” التي شنتها إدارة بوش، حيث وجد الأوروبيون أن ثمن استمرار الحماية الأميركية كان يجب دفعه باهظاً من خلال دعم المغامرات العسكرية الأميركية في أفغانستان والعراق. وهكذا، فإن تخفيض الولايات المتحدة للمصالح الإستراتيجية للأوروبيين كان الاتجاه الثابت خلال الثلاثين عاماً الماضية، مصحوباً، بطبيعة الحال، بمزاج متزايد من الإحباط من إحجام الأوروبيين عن تحمل نصيب أكثر إنصافاً من عبء دفاعهم. إلى جانب ذلك، فقد ذهب تصميم أميركي راسخ على تأمين درجة من التعويض من خلال تجارة الأسلحة الدولية، من خلال تقييد وصول الأوروبيين إلى السوق الأميركية والتكنولوجيا الأميركية. في الواقع، استخدمت الولايات المتحدة لوائح التجارة الدولية في الأسلحة لعرقلة المنافسة الأوروبية في أسواق البلدان الثالثة، وضغطت بقوة ضد جهود الأوروبيين لتطوير قاعدتهم الصناعية والتكنولوجية الدفاعية.

 وقصارى القول، سيكون من الحكمة أن ينظر الأوروبيون إلى التباعد عبر الأطلسي على أنه تحوّل هيكلي طويل الأجل في المصالح الجيوسياسية، بكل ما يعنيه من ضرورة وضع سياسات سيادية متينة ومستدامة على المدى الطويل. لدى أوروبا كل من الموارد المالية والتكنولوجية لتحقيق ذلك. عام 2018، أنفقت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 28 دولة جماعياً أربعة أضعاف ونصف الإنفاق على الدفاع مما أنفقته روسيا. ومن المقرر أن يستمر الإنفاق الأوروبي في الارتفاع.. ولكن المشكلة تكمن في حجم أوجه القصور الدفاعية لدى الأوروبيين: تعويض ما توفره الولايات المتحدة حالياً وتحقيق استقلالية دفاعية حقيقية سيكون عملاً لعقود لا سنوات. وبحسب تقديرات المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، فإن الأعضاء الأوروبيين في الناتو، لكي يتفوقوا على روسيا من دون دعم الولايات المتحدة في صراع إقليمي تقليدي، فإنهم يحتاجون إلى استثمار ما بين 288 مليار دولار و357 مليار على مدى 20 عاماً.

وكي ينجح كل ذلك، يبدو أن على الأوروبيين إظهار نوع من وحدة الهدف والاستعداد لتجميع جهودهم الدفاعية والموارد التي لم يحققوها حتى الآن خلال العشرين عاماً من “مشروع الدفاع الأوروبي”. وذلك سيتطلب سردية سياسية جديدة تحفز الأوروبيين بعيداً من التبعية الأميركية، ولكنها في الوقت نفسه تتجنب استعداء واشنطن. وهكذا، ففي الوقت الذي قد يكون من المغري الحديث عن “ساعة السيادة الأوروبية” كما بشر بها رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر حالة الاتحاد لعام 2018، من الأفضل أن يلتزم الأوروبيون بالسردية الأقل إثارة للجدل المتمثلة في “تحمل نصيب أكبر من عبء الدفاع عن أوروبا”. ومع ذلك، هناك مجال لمزيد من التفكير الإبداعي حول كيفية تأطير سرد تقاسم الأعباء. سيكون من الضروري الابتعاد عن المصطلحات المالية الفظة (والتجارية) التي يتصور فيها الجانب الأميركي علاقة الدفاع عبر الأطلسي، لأن المشكلات الحقيقية للدفاع الأوروبي لا تتعلق بكمية إنفاق الأوروبيين بقدر ما تتعلق بكيفية إنفاقهم لها، وعلاوة على ذلك، وبغض النظر عن المبلغ الذي ينفقونه، فسيظل دائماً أقل من الولايات المتحدة.

شاهد أيضاً

الأمل المستحيل لإسرائيل

بقلم: عاطف الغمري – صحيفة الخليج الشرق اليوم- عندما يطرح مركز بحوث أمريكي مؤيد دائماً …