الرئيسية / مقالات رأي / العراق: “الدولة” شعاراً انتخابياً

العراق: “الدولة” شعاراً انتخابياً

بقلم: إياد العنبر – موقع الحرة

الشرق اليوم- (نعيدها دولة) و(قوى الدولة) و(نريد دولة) أبرز شعارات الدعاية الانتخابية في العراق، لكن المفارقة أن من يرفع هذه الشعارات ليس أحزابا ومرشحين يشاركون لأول مرة في الانتخابات ويقدمون أنفسهم للمشاركة في السلطة لمواجهة الخراب والفساد والفشل الذي انتجته وراكمته القوى السياسية التقليدية، بل هي أحزاب و”زعامات” دمّرت وحطّمت كلَّ ما تبقى من الدولة طوال ثمانية عشر عاماً.

التفكير باستقطاب الجمهور في مواسم الانتخابات من خلال رفع الشعارات السياسية، حتى إنْ كان بعيداً عن برنامج سياسيٍ واضح وصريح المَعالم، قد يكون مبرراً كتوظيف في الدعاية الانتخابية. لكنه يحتاج بالدرجة الأولى إلى حضور عنصر الإقناع وليس الاعتماد على الهتافات واللافتات الدعائية فحسب.

لذلك قد تكون الدعاية ساذجةً وسمجة، عندما تفكر باستغفال الجمهور والتعامل معه وكأنه يعاني من الزهايمر، وهذا ما يفعله كثيرٌ من زعماء الطبقة السياسية وحاشيتهم هذه الأيام. 

قد يكون النفاق في السياسة وسيلة لتحقيق المكاسب الآنية، لكنه لا يمكن أن يكون عاملاً في كسب ثقة الجمهور، لاسيما في ظل تجربة مريرة مع قوى وأحزاب وشخصيات سياسية لم تترك مفهوماً سياسياً ولا شعاراً إلا عملت على تحريفه عن مساره. إذ أن مَن رسَّخ في أذهان المجتمع بأنَّ الحكومة هي دُمى في مسرح العرائس لا أكثر ولا أقل، وإنَّ الأيادي التي تحرك هذه الدمى هي زعامات سياسية، لا يحقّ له الحديث عن الدولة؛ لأنَّ الدولة القوية تكون من خلال حكومة قوية وتملك القرار السياسي وتفرض نفوذها وسيطرتها على الجميع وليس العكس.

من يرفع شعار الدولة في الانتخابات، يقدّم نفسَه على أساس المفاضلة والتنافس بينه وبين من يحمل السلاحَ الموازي للدولة وجماعات سياسية لديها أذرع مسلّحة، ويريد اختزال الموضوع بثنائية: حكم الأحزاب- حكم الميليشيات.

بيد أن هذا الاختزال هو نوع من التضليل السياسي؛ لأنَّ منطق الغنيمة وليس حكم المؤسسات السياسية هو من يهمين على تفكير وعقلية أغلب الأحزاب السياسية في العراق. ومن ثمَّ، خيارات المفاضلة شبه معدومة، لأنَّ مَن يملك السلاح ويريده أن يكون أعلى من سلاح الدولة لفرض نفوذه السياسي، لا يقل ضراراً عن زعامات سياسية تريد أن تتغلغل في مؤسسات الدولة لتحوّلها إلى أقطاعيات حزبية وعائلية للزعامات السياسية وحاشيتها. وفي كلا الحالتَين ستكون الدولة منهوبةً لأنَّ الاختلاف ليس في مشاريع وإيديولوجيات بشأن إدارة الحكم، وإنما في الوسيلة التي يتم من خلالها السيطرة وفرض الهيمنة على السلطة، وكيفية الهيمنة على موارد الدولة. 

منظومة العمل السياسي التي تحكم العراق لا يمكن لها أن تنتج دولة، لأنها نتاج لموروث سياسي متراكم أمسى نمطاً سياسياً وفق منطق الترضيات المتبادلة والمساومات والصفقات بين الفرقاء السياسيين، وليس وفق منطق التوازن بين تحقيق الحد الأدنى من الحاجات الأساسية للمجتمع وبين تحقيق المصالح السياسية للأحزاب والقيادات السياسية، ولذلك باتت الغاية الرئيسة لهذه المنظومة توزيع الحصص والمغانم وليس إدارة الدولة وفق برنامج سياسي واستراتيجي. 

مَن لم يحترم إدارة ناخبيه ويتعالى عن الوظيفية البرلمانية، ولا يردد القَسَم رغم انتخابه من قبل الشعب ولم يحضر جلسات مجلس النواب، كيف يمكن أن نثق بشعاراته عن الدولة وإعادة هيبتها! ومَن ساهم بتأسيس الواقع السياسي الفوضَوي، بالتأكيد لا يمكن أن يتنج حلولاً لاستعادة الدولة التي دمّر كلَّ ركائزها وحوَّلَ مؤسساتها إلى اقطاعيات لعائلته وحاشيته ولحزبه. ومَن عمل على تهميش عمل المؤسسات الدستورية وخلق مناصب سياسية وأمنية ترتبط بشخصه، ومَن يتقاسم السفارات والممثليات الدبلوماسية التي يفترض أنها تمثل الدولة، وتقاسم إدارة المحافظات، ومَن يتقاسم موارد الدولة، يتعامل مع وزارات الدولة على اعتبار أنها فرصة استمثارية.

لذلك يبدو طريفاً من يرفع شعار الدولة في الانتخابات مَن يعمل ضمن منظومة سياسية رسَّخت أسسها على أساس قتل الدولة وضياع دمها بين الفرقاء السياسيين وسلب روحها من المجال العام؟ فمحنة العراقيين مع الطبقة السياسية، أن زعماء هذه الطبقة شركاء في الخراب والدمار والفساد الذي لحق بالدولة، وهم الآن يقدمون أنفسهم كمنقذين وقادة يسعون للإصلاح ويريدون استعادة الدولة التي خرّبوها هم لا غيرهم. 

ثمانية عشر عاماً والطبقة السياسية تتقاسم مؤسسات الدولة وكأنها أرث الأجداد والآباء! واليوم تريد من المواطن أن يثق بشعارهم الانتخابي الذي يحمل لافتة استعادة الدولة. إذ من يرفع شعار “الدولة” في الانتخابات هم أنفسهم من كان يحمل معاول تهديم دولة المؤسسات، عمل على بناء دولة الغنيمة، ومن ثمَّ، مَن فشل في بناء دولة القانون والمؤسسات لا يحقّ له أن يطالب بفرصة ثانية أو ثالثة أو أكثر، لأنَّ من يمارس السياسة وينمط سلوكه على أساس العيش في واقع اللادولة لا يمكنه أن يحمل مشروع بناء دولة، لأنَّ الثقافة السياسية التي رسختها الطبقة السياسية من خلال سلوكها في ممارسة السلطة تفصل بينها وبين بناء الدولة سنوات ضوئية، ولا يمكن أن تكون فترة الانتخابات قادرة على تصحيح ذلك النمط الفوضوي.

والفرقُ شاسعٌ بين ثقافةٍ سياسية ترسخت فيها كلُّ مظاهر الدولة، كحكم القانون والمؤسسات وممارسة تطبيقهن، وبين ثقافة سياسية رسخت كلَّ مفاهيم المجتمع التقليدي على حساب مصلحة الدولة، كاعتبار موارد الدولة (مجهولة المالك)، وتحقيق الزعامة المجتمعية من خلال السيطرة والنفوذ على المؤسسات والأموال العامة، وترسيخ الانقسام المجتمعي على أساس الهويات الفرعية، وممارسة الحكم على وفق منطق المافيات التي تريد اقصاء الخصوم بغض النظر عن الوسيلة.

كيف يمكن أن يبني دولةً مَن شارك بتهديم وتهميش دور أهم مؤسسة في بناء الدولة، ألا وهو الجيش بزجّ عناصر حزبية لم تحضر ميدان التدريب العسكري يوماً واحداً في حياتها، ومن ثمَّ تمنح أعلى الرتب وتتولى أعلى المناصب في المؤسسات الأمنية؟ وكيف يبني الدولةَ مَن يؤمن بأن معيار توزيع المناصب العليا في الدولة هو الولاء لشخص الزعيم أولاً وأخيراً وليس الكفاءة والخبرة في الإدارة؟ 

مشكلة الدولة في العراق لا يمكن اختزالها في شعار انتخابي ترفعه قوى سياسية تريد تقديم نفسها باعتبارها بديلاً لقوى السلاح، وإنما هي نتيجة لاقتصاد ريعي يسعى الجميع إلى المشاركة بالحكم للسيطرة عليه أو تقاسمه، ولثقافة سياسية في مجتمع تقليدي يؤمن بأنَّ الخلاص يتم من خلال الزعامات وليس حكم دولة المؤسسات، ولأحزاب سياسية تأسست وفق ايديولوجيات تتقاطع مع مفهوم الدولة بحدودها الوطنية ووظائفها الإدارية والسياسية، وإنما تعتبرها وسيلة لبلوغ غايات أخروية. وأخيراً غياب العقلية المؤسساتية التي تبني الدولة التي تأتي كنتيجة لتضخم الآناء عند الزعامات والسياسيين فتغدو أكبر مِن أي مؤسسة تحتويها.

شاهد أيضاً

وجوه جديدة لأزمة اللاجئين

بقلم: وليد عثمان – صحيفة  الخليج الشرق اليوم- على ضفاف الأزمات التي تتفاقم في المنطقة، …