الرئيسية / مقالات رأي / الإنقلاب العسكري في غينيا في سياقه الإقليمي

الإنقلاب العسكري في غينيا في سياقه الإقليمي

بقلم: روعة قاسم – النهار العربي

الشرق اليوم– يزخر سجل بلدان أفريقيا جنوب الصحراء على مدى العقود الماضية التي تلت استقلالها عن مستعمريها السابقين، سواء كانوا الفرنسيين أم البريطانيين أم البرتغاليين أم غيرهم، بالانقلابات العسكرية. ففي رصيد هذه الرقعة من العالم الغنية بالثروات الطبيعية أرقام قياسية لم تعرفها مناطق أخرى تميزت بدورها بعدم الإستقرار في فترات معينة من تاريخها الحديث أدت إلى كثرة الإنقلابات على غرار بلدان شرق آسيا والمنطقة العربية وبلدان أميركا اللاتينية وبلدان المعسكر الشرقي السابق.

وتشير الأرقام إلى أن معدل الانقلابات العسكرية في القارة السمراء خلال العشرين سنة الأخيرة بلغ انقلابين اثنين كل عام وذلك بعد أن كانت القارة تشهد ما يعادل أربعة انقلابات سنوياً في ما مضى، وقد عادت القارة في هذا العام إلى تسجيل المعدل السابق اذ عرفت أربعة انقلابات دفعة واحدة، اثنان في مالي، وواحد في تشاد، انتهى بتصفية الرئيس إدريس ديبي، ناهيك بالانقلاب الأخير الذي شهدته غينيا كوناكري.

ولعل القاسم المشترك بين هذه الانقلابات الأربعة أنها حصلت في مستعمرات فرنسية سابقة ما جعل البعض يوجه أصابع الاتهام إلى باريس ويتهمها بالقيام بتغييرات في مستعمراتها الأفريقية تضمن هيمنتها لعقود قادمة. فالبيادق المطاحة في هذه البلدان، بلغت من العمر عتياً وأصبحت مرفوضة شعبياً بسبب تردي الأوضاع، ولم تعد لديها القدرة على ضمان مصالح الفرنسيين رغم أنها أسدت جليل الخدمات لباريس في ما مضى.

وبالتالي كان من الضروري استبدال أخرى يافعة وقوية وقادرة على السيطرة على الميدان بهذه الدمى الهرمة، سواء تعلق الأمر بنجل إدريس ديبي في تشاد أو هاشمي كويتا في مالي أو المنقلب على الرئيس الغيني ألفا كوندي، قائد القوات الخاصة مامادي دومبويا. فالأخير على سبيل المثال تجاوز عمره الأربعين بعام واحد، وقد تخرج في الأكاديميات العسكرية الفرنسية وانتمى إلى الجيش الفرنسي وتشبع بعقيدته ضمن الفيلق الأجنبي لسنوات طويلة، وعرض حياته للخطر من أجل فرنسا في أكثر من بؤرة توتر تدخلت فيها القوات الفرنسية في القارة السمراء على غرار أفريقيا الوسطى وتشاد وساحل العاج وغيرها. 

وهناك مواصفات أخرى رجحت كفة دومبويا منذ سنوات ليكون رجل فرنسا القوي في غينيا، من بينها أنه متزوج من فرنسية تنتمي إلى جيش بلادها وولاؤها لفرنسا من دون سواها لما يعرف عن العسكريين من تشبع بقيم الانتماء إلى الوطن والاستعداد للذود عنه خلال الأزمات والمحن. كما أنه ينتمي إلى عرق مالينكي وهو الغالب على غرب أفريقيا الأمر الذي يجعله مقبولاً ومرحباً به في محيطه شأنه شأن الرئيس المطاح ألفا كوندي. لذلك اهتمت فرنسا بدومبويا منذ أن كان يافعاً في العشرينات وأرسلته في بعثات لتلقي تدريبات خاصة بوصفه خبيراً في إدارة الدفاع والقيادة والإستراتيجية، من بينها بعثة إلى الكيان الصهيوني.

فدول مثل غينيا وتشاد ومالي وساحل العاج والنيجر وغيرها، هي بلدان غنية بالثروات الطبيعية التي تضمن بقاء فرنسا كقوة إقتصادية في العالم يقرأ لها ألف حساب رغم تراجعها في السنوات الأخيرة مقارنة ببلدان أخرى نهضت من سباتها والتحقت بركب الحضارة. وبالتالي فإن الاستقرار في هذه البلدان هو مصلحة فرنسية تضمن استغلال باريس الأمثل لثروات مستعمراتها السابقة في أفريقيا ومنها غينيا كوناكري التي تحتل المرتبة الأولى في العالم من حيث احتياطيات خام الألومينيوم وفيها ثروات هامة من الذهب والماس والحديد وغيرها من المعادن.

وقد ساهمت الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المزرية في غينيا في دفع الفرنسيين برجلهم الشاب إلى الانقلاب على رجلهم الآخر الهرم، وذلك لضخ دماء جديدة خشية حصول هبة شعبية قد تأتي على الأخضر واليابس وتعيد خلط الأوراق وتجعل عملية السيطرة مجدداً على الأوضاع مكلفة لباريس. فالرئيس المطاح ألفا كوندي، وعلى غرار ما هو حاصل في عدد من الأنظمة العربية، قام بتعديل الدستور من أجل الحكم لولاية ثالثة، وتلاعب بصناديق الاقتراع ضامناً لنفسه التفوق على خصومه بوسائل غير مشروعة وهو ما خلق حالة من الاحتقان لدى غالبية أبناء الشعب الغيني.

وأمام تردي الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية في بلد يعتبر من أغنى دول العالم بالثروات الطبيعية بسبب الفساد المستشري، لم تجد الحكومة من حل سوى رفع الضرائب وأسعار المحروقات والمواد الغذائية مستهدفة القدرة الشرائية لشعب يئن من الفقر والبطالة وانتشار الأمراض وغيرها من الآفات. كما دفع الرئيس المطاح باتجاه سن قوانين زجرية لقمع التحركات الاحتجاجية وهو ما جعله يتورط في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان بعد أن سالت دماء غينية برصاص قوات الأمن وبتفويض من الحاكم بأمره.  فسارعت فرنسا إلى الدفع برجلها الشاب القوي لإطاحة رئيسه وتولي مقاليد الحكم قبل فوات الأوان وخروج الأمور عن السيطرة بعد أن بلغ السيل الزبى بالشعب الغيني المنكوب الذي لم يجد من حل سوى الترحيب بالانقلاب والانقلابيين.

شاهد أيضاً

أميركا إذ تتنكّر لتاريخها كرمى لعينيّ نتنياهو

بقلم: راغب جابر- النهار العربيالشرق اليوم– فيما تحارب إسرائيل على أكثر من جبهة، تزداد يوماً …