الرئيسية / مقالات رأي / الطوطمية… من دين بائد إلى سياسة معاصرة

الطوطمية… من دين بائد إلى سياسة معاصرة

المصدر: النهار العربي 

الشرق اليوم – أدارت الشعوب البدائية حياتها ونظمتها عبر أنظمة محدودة كان أشهرها ما يُعرف بـ”الطوطم المقدّس”، والذي كان يأخذ شكل حيوان أو نبات تتجسد فيه روح الإله فتقدّسه القبيلة وتعبده، واكتشف في ما بعد أن بإمكانه أن يصبح هو إلهاً بدوره. أما الشعوب الحديثة، فقد انقسمت بين من حطم كل هذه التابوهات من جذورها منتقلاً إلى مرحلة حضارية تحترم وجود الإنسان وحقوقه وحرياته، وتقوم على المواطنة والانتماء على أساس الاختيار الحر والديموقراطية، وبين قسم آخر لا يزال يرزح تحت معتقدات “قداسة” الحكام واقترابهم من الآلهة، فهم المعصومون عن الخطأ، ولهم عن بقية الخلق حقوق مميزة، يحكمون باسم “الحق الإلهي المقدس” لذلك لا يمكن مخالفتهم أو الوقوف ضدهم، لأسباب عديدة، وتحت هذا القسم تنضوي غالبية الشعوب العربية التي لا تستفيق من حكم ظالم مستبد حتى تجد نفسها تحت حكم آخر لا يقلّ عن سابقه جوراً، يسوّق لنفسه وتمجدّه الشعوب على أنه “البطل” و”الزعيم” و” القائد”، وترتفع به حدّ التأليه صانعة منه “طوطم” القرن الحادي والعشرين البشري.

ترجع حالة تأليه الحكام إلى حضارات شرقية قديمة، فقد عرفتها مصر الفرعونية وبلاد الرافدين واليونان، وفي هذه الحضارات نمت فكرة الملكية المقدّسة، وبعد ظهور الأديان، ورغم أن الأنبياء أنفسهم نفوا تماماً صفة الألوهة والقداسة عن أنفسهم، إلا أن خلفاءهم استغلوها لتثبيت حكمهم، فظهر ما عرف بالحكومة الدينية التي كان رجال الدين المسيحي في القرون الوسيطة أول من أعاد إنتاجها، فصاروا يحكمون على أنهم ظل الله في الأرض، وأن ما يحلّونهُ أو يُحرِّمونه للناس يحلّه أو يحرِّمهُ الله في السماء. وظهرت على يدهم صكوك الغفران والحرمان واللعنة التي قالوا عنها أنها تفويض سماوي من الرب، فصاروا يمنحون الجنة لمن يشاؤون ويحرمون من شاؤوا، ورغم هذا وما تبعه من سيادة الملكية المقدسة استطاعت أوروبا التي عرفت أعتى أشكال الاستبداد الناجم عن الحكم الفردي، ركن عادة تقديس الحكام في أقصى زوايا التاريخ والانتهاء منها من دون رجعة.

ويمكن تفسير جذور هذه الظاهرة في المجتمعات العربية وغيرها وفق واحدة من أشهر نظريات نشأة الدولة، هي النظرية الثيوقراطية الدينية التي تعيد مصدر السلطة إلى الله وحده، فإما أن يكون الحاكم من طبيعة إلهية أو يستمد حقه في الحكم من الله بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، إن هذا الارتباط بين الحاكم على الأرض وبين الله قد منح هؤلاء الحكام سلطة مطلقة، ليس الشعب مصدرها بل الله، وبالتالي فإن من يخالف هذا الحاكم إنما يخالف الله وإرادته، وهكذا نشأت الأنظمة الاستبدادية واستمرت وتوالت. وفي حين استطاعت شعوب كثيرة من خلال تطوير مفهوم العلاقة بين الوطن والمواطن أن تصوغ أشكالاً جديدة من العقد الاجتماعي الذي يعدّ الشعب مصدر السلطة، وله الحق في اختيار حكامه وعزلهم أو توجيه النقد لهم. لا يزال هذا الشكل الحضاري للدول بعيداً من واقع معظم البلدان العربية.

لا شك في أننا كشعوب تغلّب العاطفة على العقل في فهمها وتعاملها مع انتماءاتها، مسؤولون إلى درجة كبيرة عن صناعة الطواغيت والمستبدين وبقائهم، فلا نتخلى بسهولة عن “أبوية” الانتماء للحاكم حتى لو تخلينا عن تأليهه، ونربط استمراريتنا ضمن إطار العصبية والقبيلة التي يتسيدها زعيم لا يعرف الزلل، يأمر فيطاع، وكل عمل يقوم به هو إنجاز عظيم لا مثيل له، فهو يتمتع بصفات خارقة من الذكاء والعلم والحكمة ما يجعله بين رعيته أوحدَ لا بديل له.

إن هذا الحاكم “الممجد المعصوم”، لن يتردد حين تسنح له الفرصة في تدعيم حكمه والعمل على ضمان استدامته بمختلف الوسائل المتاحة، ابتداء من غسيل الدماغ والتسلّق على القضايا المصيرية بالنسبة لهذه الشعوب، ومثال على ذلك ما فعلته التيارات القومية التي ركبت قضية العروبة لتبرز “قادة” لم يعرفوا من الاسم سوى قيادة شعوبهم إلى الخراب والحروب والتخلّف والاستبداد سنوات طويلة. ومروراً بتطوير أساليب القمع ومصادرة الرأي والحريات الذي وصل حد السجن والنفي والقتل في حالات كثيرة، فصار مصدر الولاء للحاكم هو الخوف الذي زرعه هو وأتباعه بين صفوف الشعوب المستضعفة.

بعد الانفصال بين سوريا ومصر عام 1961، ألقى جمال عبد الناصر خطاباً شهيراً في الإسكندرية قال فيه: “عندما علمت بالانفصال أصدرت أوامري إلى القوات المسلحة بالتحرك فوراً إلى سوريا للقضاء على المؤامرة”، بدأت بعدها الجماهير بالتصفيق والهتاف لـ”الزعيم” في حماسة بالغة بأوامره، لكن عبد الناصر تابع: “ثم عدت وفكرت، هل يقتل العربي أخاه العربي؟ لن أسمح بذلك أبداً، فأصدرت أوامري للقوات المسلحة بالعودة إلى القاهرة فوراً”، وهنا عادت الجماهير للتصفيق بنفس الحماسة! هذا التصفيق لم يكن لصوابية قرار الرئيس في الحالتين، لكنه كان للرئيس نفسه الذي قدّسته الجماهير العربية حتى وهو مهزوم، في الوقت الذي لم يشفع انتصار رئيس الوزراء البريطاني تشرشل في الحرب العالمية الثانية له للبقاء في الحكم حين وجد الشعب الإنكليزي أن سياسته لم تعد تناسبه.

ولا يخرج ما فعلته تيارات الإسلام السياسي التي بدأت بالبزوغ والانتشار منذ منتصف القرن العشرين عن سلوك القوميين والسلطات التي أنجبتهم، فعادت فكرة الخلافة الإسلامية إلى ساحة الجدال القائم حول أنظمة الحكم، وعمل أنصارها على الترويج لفكرة “الخليفة” المرتبطة بالعواطف والانتماءات الدينية تحت الذرائع ذاتها التي سادت قبل مئات السنوات، فالخليفة هو الحاكم بأمر الله بعدما طوّره فقهاء السلاطين من خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليكون خليفة الله على خلقه، وعادت السلطة الدينية لتلقي بردائها على العمل السياسي مانحة هذا الخليفة قداسة وعصمة، ورغم مرور عقدين من الألفية الثالثة ما زال بين ظهرانينا سياسيون يحاولون الحصول على صفة القداسة هذه في عدة دول تدّعي الحداثة والسير على طريق الديموقراطيات، في حين يؤسس حكامها لنوع من السلطة الدينية غير القابلة للنقض، كما يحصل في إيران وتركيا على سبيل المثال.

أما عربياً، فتتناقض كثير من الدساتير العربية في مضامينها، فهي “شكلياً” تقرّ بحرية الرأي والتعبير، وفي الوقت نفسه تنص على منع انتقاد الحاكم بشخصه بل وتضع له أقسى العقوبات، أو تطبقّ هذا التحريم من دون نص قانوني حتى، وذلك انطلاقاً من فكرة راسخة بـ”عصمة” هذا الحاكم وسموّه على القانون في أحيان كثيرة! وتسجل الذاكرة العربية حوادث عدّة لعقوبات مأساوية طاولت من تجاسر على حاكم عربي، مثال ما حدث للصحافي الجزائري محمد تامالت بعد نشره قصيدة تنتقد الرئيس الأسبق عبدالعزيز بوتفليقة عام 2016، وقضى الصحافي نحبه داخل السجن بعد ثلاثة أشهر على سجنه، في حين يسجل التاريخ الغربي الحديث حوادث مشابهة تعرّض فيها قادة ورؤساء لأذية مباشرة كحادثة تعرّض رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو بيرلوسكوني لهجوم بتمثال اسمنتي صغير من أحد الشبان، مما أدى إلى كسر أسنانه وأنفه وتشويه وجهه. وتمت مقاضاة الفاعل بطريقة مدنية اعتيادية، ليس لأنه هاجم رأس الدولة، بل لأن القانون الإيطالي كان سيعاقبه بالطريقة ذاتها حتى لو كان المعتدى عليه شخصاً من عامة الناس وأقلهم مكانة. ونفس الأمر يقال على الرئيس ماكرون الذي تلقى صفعة قوية على وجهه من أحد الشبان المحتشدين لاستقباله، وقد تمت محاكمة الشاب في الأطر القانونية ليس إلا.

ولو تخيلنا حصول مثل هذه الحوادث، بل وأقل منها في أحد البلدان العربية، فهل يمكن تخيل مصير الفاعل؟ بخاصة أن الحاكم المستبد يعمد بداية استبداده إلى إعداد مجموعة من الأشخاص – الأدوات الذين يمتهنون تلفيق التهم لأي شخص ينتقد عمله، إلى جانب مجموعة من الأتباع والمطبلين والمتسلقين من جميع الفئات، يخلعون عليه صفات العظمة وينظمون في بطولاته ومآثره الوهمية قصائد المديح والغزل، حتى وصل الحال بالبعض حد التلذذ بالعبودية والاستمتاع بهذا الانقياد الأعمى! ولو عدنا إلى التاريخ السياسي للدول العربية التي ابتليت بهكذا حكام، سنجد كيف قاموا وبشكل ممنهج بالسيطرة على وسائل الإعلام ووضعها في خدمة تلميع صورتهم وإضفاء صفة القداسة على أسمائهم ليل نهار.

لا سبيل إلى الخروج من هذا المستنقع المُهلك عربياً سوى ببناء دول حقيقة تقوم على عمل المؤسسات وليس على تسلط الأفراد، ولا شك في أن تحقيق هذا الأمر ليس بالسهولة التي نعبر عنها به، بل يتطلب عملاً متكاملاً على جميع المستويات يبدأ من تهيئة الفرد ليكون مواطناً يعلو لديه الانتماء للوطن والعمل لأجله على أي انتماء آخر، انتماء ينزع صفة القداسة عن الأشخاص، ويجعل كل فرد شريكاً حقيقياً فاعلاً في صناعة القرارات في بلده، إلى جانب العمل الحثيث والفوري على تأسيس الأخلاق بناء على قوانين وضعية ذات طابع إنساني تُطبق بعدالة بين الجميع.

بات من الضروري والملّح اختيار الحاكم بعيداً من طقوس التقديس وبدعة القضايا الكبرى التي تستخدم شماعة لتجاهل شؤون الشعب الداخلية المتردية، ووضعها في أسفل سلّم الأولويات من قبل الحكام، إما بحثاً عن مصلحة شخصية تضمن له استمرار الحكم اعتماداً على جهل وضعف الشعب واستمرار حاجتهم إلى ما يُمنّ به عليهم من حقوقهم، بعد أن يحول الدولة إلى جبية لحسابه الخاص، أو خدمة لجهات خارجية لها ذات المصلحة في إبقاء هذه الشعوب في حالة حرب وفوضى وجهل، “فالطاغية مهمته أن يجعل الشعب فقيراً، وكاهن الطاغية مهمته تغييب وعي الشعب”.

يعرّف الفيلسوف إريك فروم الوثنية بأنها ليست الإيمان بالآلهة المتعددة؛ ولكن عبادة ما نصنع من أشياء، حين نهبها كل أحلامنا وعواطفنا وقوانا وماهيتنا، ثم نعبدها بعد أن نكون قد أفلسنا تماماً من أي معنى أو قيمة داخلية. كلما أصبح الوثن قوياً أصبح المتعبد فقيراً، أو العكس بالعكس، يزداد تقديس الحاكم كلما ازداد وضع محكوميه سوءاً. أفلم يئنِ الأوان كي نصحو كعرب من أحلام الوهم بوجود “البطل” أو “الزعيم” الذي سيحمل السلام ويزيل آلامنا بلمسة من يده “المباركة”، فننظر إلى الحاكم كبشر يخطئ ويصيب، ويخضع للمساءلة والحساب والعقاب على عمله كأي مواطن أو موظف آخر في بلده.

يبدأ خلاصنا كشعوب عربية من كسر هذه الحلقة المستحكمة التي تقف حجر عثرة على طريق بناء الديموقراطيات الحقيقية وتمنع أي خطوة نحو الأمام، لا سلام من دون بناء دول مؤسسات لا أشخاص، ولا تقدّم من دون سلام راسخ يبنيه مواطن واثق بنفسه ومواطنيته، يتمتع بحقوقه على أسس القانون والعدالة بين الجميع، فيبني انتماءه بعيداً من الأحلام والأوهام وصناعة الدمى والركوع في محرابها كأنها فعلاً تملك خلاصه.

أليست هذه هي الحرية التي قاتل “زعماء” عرب كثيرون كي لا نحظى بها بعدما أوهمونا أنهم جاءوا من أجل حريتنا وتحريرنا؟ بلى.. إنها هي!

شاهد أيضاً

إيران وإسرائيل… الحرب والحديث المرجّم

بقلم عبد الله العتيبي – صحيفة الشرق الأوسط الشرق اليوم- ضعف أميركا – سياسياً لا …