الرئيسية / مقالات رأي / مفارقات قيس سعيّد

مفارقات قيس سعيّد

بقلم: أسامة رمضاني  – النهار العربي 

الشرق اليوم – الانتقادات جزء لا يتجزأ من المزاج اليومي للتونسيين. ومن الطبيعي أن يكون بعضها موجهاً للرئيس قيس سعيد، حتى وإن كانت شعبيته غير مسبوقة في تاريخ الساسة التونسيين منذ 2011. 

لا شيء مفاجئاً في الانتقادات. فبعدما جمع الرئيس معظم السلطات في يديه وجمّد دور البرلمان، أضحى من الطبيعي أن تسلّط عليه الأضواء وأن ينتقد أداؤه. 

أفراد النخبة لهم مآخذهم المتنوعة. هناك طبعاً سياسيو المنظومة القديمة الذين يطالبون بعودة البرلمان وبوقف الإجراءات الاحترازية تجاه من هم رهن الملاحقة القضائية. ويلتقي بعض هؤلاء مع منظمات المجتمع المدني المنشغلة بمستقبل الحقوق والحريات اعتباراً لسلطات الرئيس الواسعة وللإجراءات الاستثنائية التي لجأ إليها منذ 25 تموز (يوليو). خفت صوت النقاد في المنابر الإعلامية بسبب غياب معظم المنابر في إجازة صيفية. ولكن المنصات الإلكترونية بقيت زاخرة بآراء المحللين الذين يرون في رسائل سعيد الى الجمهور شعبوية زائدة وتهميشاً مفرداً لدور الطبقة السياسية. وهناك من عيل صبره من عدم تشكيل حكومة وتعيين شخصية كفوءة على رأسها.  

ولكن كل التساؤلات والمآخذ، رغم مشروعية بعضها، لم تغير شيئاً كثيراً من مواقف الشارع تجاه سعيد. بل إن الغالبية ما زالت تساند تطبيقه الأحكام الاستثنائية وتعارض العودة إلى ما كانت عليه الأوضاع في ما قبل. ويرى مساندو سعيد في انتقاد رئيس الجمهورية أو حثه على أن يسرع خطاه مواقف غير واقعية، باعتبار تراكم التحديات مدة عقد ونيف من دون أن يحرّك أحد قبله ساكناً.  

وفي هذا الخضم، يواجه خبراء الرأي العام والاتصال مفارقة: كيف استطاع سعيد المحافظة على مستوى شعبيته الفائقة، رغم الانتقادات الموجهة إليه من كل حدب وصوب؟ صحيح أن نسبة مساندة الرأي العام لسعيد نزلت نسبياً من مستوى 92 في المئة المسجل في أواسط شهر آب (أغسطس). لكن “نزولها” في أواخر آب كان إلى نسبة مساندة تبلغ 82 في المئة، بعدما كانت لا تتجاوز 40 في المئة خلال شهر حزيران (يونيو). واللافت أن كل الشخصيات السياسية الأخرى المنافسة له تجد نفسها تحت عتبة 5 في المئة من المساندة. وحزبه غير الموجود أصلاً، إلا في مخيلة أصحاب شركات استطلاع الرأي، لا يزال يحظى بتأييد ما لا يقل عن 20 في المئة من الأصوات.  

يسقط بين أيدي بعض خبراء الاتصال كيف يستطيع سعيد مواصلة تحقيق مثل هذه الأرقام الخيالية، رغم ضبابية المشهد السياسي والانتقادات الموجهة الى مساره من الداخل والخارج، وبخاصة رغم عدم احترامه الأبجديات التقليدية لعملية الاتصال السياسي. 

رغم كل شيء، لا يمكن للمراقب الموضوعي إلا أن يقر بأن الرجل ناجح إعلامياً واتصالياً، على الأقل إلى حد الآن. فقد حقق نتائج مذهلة رغم أنه ليس معروفاً عنه ولعه بالندوات الصحافية أو بالإدلاء بالأحاديث إلى الصحف والقنوات التلفزيونية أو باستقبال الإعلاميين في قصره لاستمالتهم. ليس هناك حتى متحدث رسمي باسم رئاسة الجمهورية يخرج كل يوم للإعلام والجمهور الواسع ليوضح ما التبس من الأمور وفيها الكثير. كما أن الرجل يصر على الحديث بالعربية الفصحى عوض العامية التونسية القريبة أكثر من مخيلة الناس.

كل ما يفعله سعيد هو الظهور يومياً في تسجيلات فيديو بالصوت والصورة، توثّق أنشطته ويوزعها القصر على شبكة الإنترنت، بما يضمن إطلاع الجمهور الواسع عليها بغض النظر عن طريقة استغلال وسائل الإعلام لها. 

بواسطة الإنترنت، قد يكون سعيد قفز فوق الصحافة والتأثير مباشرة في الجمهور الواسع. ولكن هذه لا يمكن أن تكون في حد ذاتها استراتيجية إعلامية واتصالية مقنعة. البعض يقارن عدم وضوح هذه الاستراتيجية بكلام ونستون تشرشل عن روسيا التي وصفها الزعيم البريطاني الراحل يوماً “بأحجية ملفوفة في سر غامض داخل لغز”.

لغز سعيد ليس جديداً. فهو يفكر ويتصرف خارج الصندوق. وقد سبق له أن فاز في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية بما لا يقل عن 70 في المئة من الأصوات، من دون أن تكون له حملة انتخابية منظمة بحسب الأنماط التقليدية، وإن كان لأنصاره (ولا يزال) وجود مكثف على منصات التواصل الاجتماعي. 

كان من المفروض ألا ينجح أسلوب سعيد غير التقليدي في كسب موجة من التأييد بهذا المستوى. لكنه نجح. وهذا يخلق أزمة فعلية لخبراء الصورة. فكيف لهؤلاء أن ينتقدوا نقاط ضعف أدائه الاتصالي، وهو يحظى بهذا المستوى من المساندة الشعبية. ومثلما يقول المثل الأميركي “لا تحاول إصلاح شيء إن لم يكن في الأصل مكسوراً”.

جانب كبير من الإجابة عن هذه المفارقة يكمن في الرجّة غير المسبوقة التي أحدثها قيس سعيد يوم 25 تموز وما بعده، وليس فقط في ما قاله أو ما نقله عنه الإعلام. فمبادرته تجميد البرلمان وإعفاء رئيس الحكومة السابق من مهامه شفت غليل شرائح واسعة ومتنوعة من الرأي العام. فهو أنهى حالة الانسداد السياسي، بما في ذلك مسلسل التصرفات المستهجنة في مجلس نواب الشعب والدور المهيمن لـ”حركة النهضة” على الأجندات البرلمانية. كما وضع حداً لعمل طاقم حكومي أظهر عجزاً في مجابهة تداعيات جائحة كورونا وبقية الأزمات الأخرى في البلاد.  

الجانب الثاني من الإجابة هو أن سعيد، رغم تجميعه معظم السلطات التنفيذية بين يديه، بقي يتصرف وكأنه زعيم المعارضة الشعبية وليس رأس السلطة التنفيذية. بقي يتّهم الفاعلين في المنظومة السائدة بالضلوع في “الفساد” و”تجويع” الشعب و”تفقيره”، متعهداً تغليب “إرادة الشعب” في نهاية المطاف. وبقيت سرديته المرتبطة بالتوجس من الفئات المهيمنة سياسياً واقتصادياً تلقى استجابة لدى الطبقات الشعبية وجانب لا يُستهان به من النخبة. كما استطاع استقطاب شريحتين قلّما تلتقيان على مساندة شخص واحد. وهما الشريحة الواسعة من المحافظين في المجتمع وفئة الرافضين لسيطرة “حركة النهضة” (وأتباعها من الإسلاميين) على دواليب الدولة في الوقت نفسه.   

فالرئيس التونسي الذي لا يرى حرجاً في إبراز تعلقه بالدين والاستشهاد بالآيات القرآنية في كل المناسبات، هو نفسه الذي أوقف سيطرة الإسلاميين على دفة الحكم بفعل إنهائه دور البرلمان والحكومة بصيغتهما السابقة على الأقل.    

مهما كانت الأسباب والتفسيرات لنجاح سعيد في كسب الأنصار، فإن المحافظة على نسبة التأييد الشعبي بالنسبة الى أي قائد سياسي (بخاصة إذا كان يمسك فعلياً بالسلطة) قد تكون أحياناً أصعب من الحصول على هذا التأييد أصلاً. فطريق ممارسة الحكم كثيراً ما تكون معبّدة بقرارات غير شعبية، كالإصلاحات الاقتصادية اللازمة لتجاوز الأزمة المالية التي تواجهها البلاد. وهي قرارات قد تجبر الماسك بزمام السلطة على أن يختار بين أجندات الحكم والمعارضة. إضافة إلى ذلك، فإن تبني مطالب الشارع الذي هو مصدر شعبية سعيد من شأنه أن يرفع سقف التطلعات، بما قد يتجاوز قدرة الدولة على تحقيقها.

ومن الأكيد أن سعيد واع بأن التأييد الشعبي الواسع يمنحه فرصة لا تعوض لتحقيق إصلاحات جوهرية على نظام الحكم من أساسه. ومن المفهوم أن يصف هو نفسه الظرف الحالي الذي تجتمع فيه ممارسة السلطة وشرعية الشارع بـ”اللحظة التاريخية الحاسمة”.

ومن الأكيد أيضاً أنه يعرف أن ممارسة السلطة سوف تضطره للإنفاق من رصيده لدى الرأي العام. لكنه يعلم أيضاً أن نجاح السياسات لا يقاس دائماً بأرقام استطلاعات الرأي، بل يقاس فقط بالنتائج الملموسة بالنسبة الى من بقوا ينتظرون الفرج منذ أكثر من عشر سنوات. وليس بإمكان سعيد اليوم أن يخيّب آمالهم.

شاهد أيضاً

حدود “خلاف” بايدن ــ نتنياهو… فوق أنقاض رفح

بقلم: إياد أبو شقرا- الشرق الأوسطالشرق اليوم– ما زلتُ حائراً في تقدير قرار الرئيس الأميركي …