الرئيسية / مقالات رأي / الممكن والمستحيل في أفغانستان الطالبانية

الممكن والمستحيل في أفغانستان الطالبانية

بقلم: محمد المحمود – موقع الحرة

الشرق اليوم- يشتغل الرأي العام العالمي كثيرا بما يجري في أفغانستان اليوم، لا بسبب قلقه على مآلات الحريات والحقوق، وبالتالي سائر الأحوال المعيشية للشعب الأفغاني فحسب، وإنما ـ أيضا، وهو الأهم ـ بما يعنيه حكم طالبان بالنسبة للعالم خارج حدود أفغانستان، خاصة ما يتعلق بموقفها من جماعات العنف المسلح (= الإرهاب) التي تلتقي معها الحركة على محاور أيديولوجية لا يمكن تجاهلها، ولا التغافل عن حقيقة أنها كانت ـ ولا تزال ـ تفرض نوعا من شبكات الاتصال والتضامن، المباشر وغير المباشر، القوي والفاتر؛ حسب الظروف ومتغيراتها، وحسب تنوع وتحوّل القناعات في تفاعلها مع مسارات الظرف المتغيّر، وحسب المصالح الحركية، والعِرْقيّة، وربما الشخصية، التي تُؤَطِّر كلَّ ذلك في نهاية المطاف.

اليوم، طالبان هي التي تحكم أفغانستان. دعك من تمرّدٍ هنا أو هناك، دعك من مُعارضة هزيلة لن تصمد طويلا، ولا حتى لبضعة أيام. لم يعد محل خلاف أن كلمة طالبان هي الكلمة الفصل في الشأن الأفغاني ، ليس الآن فحسب، بل منذ دخلت كابل قبل ثلاثة أسابيع تقريبا. والملفت هنا أنها منذ تلك اللحظة، لحظة الاجتياح المظفر للعاصمة، وإلى هذا اليوم الذي باتت تسيطر فيه على كامل الأراضي الأفغانية، ترفض إصدار قرارات تشريعية واضحة/ مكتوبة تُحَدّد فيها موقفها الصريح والمفصّل من كل القضايا الإشكالية المُلِحّة التي على ضوئها سيتحدّد مستقبل أفغانستان.  

نعم، ثمة تصريحات مُطمّئِنة، من هنا وهناك. لكنها تصريحات عامة، غير محدّدة، يُطْلقها مَن لا يملك القرار النهائي، وتصدر على شكل مجاملات صحفية، أو على هيئة تعبير دبلوماسي من هذا القيادي الطالباني أو ذاك؛ فكأنما تُعَبِّر عن رغبات وأمنيات، أو حتى عن وعود كلامية عابرة؛ لا تتحمل فيها أية مسؤولية مؤسساتية/ قانونية تفرض عليها شيئا من الالتزامات مستقبلا.

لا شيء غير الوعود ! الوعود والتعهدات قديمة وكثيرة ومستمرة. يذكر مايكل سمبل في دراسة له عام 2012 أن طالبان أشارت ـ أولا ـ  إلى أنه في حال سحبت الولايات المتحدة جنودها فهي على استعداد لقطع صلاتها رسميا بالقاعدة. كما أشارت ـ ثانيا ـ إلى أن لديها رؤية مستقبلية لأفغانستان يسودها السلام والتعددية، كما يستلزم بالضرورة تحقيق نوع من المصالحة مع باقي الجماعات الأفغانية (معضلة أفغانستان، طالبان والولايات المتحدة، ص115). 

هنا ثمة وَعْدان أو تعهّدان، الأول مُمْكن ومُتوقّع، والثاني يكاد يكون مستحيلا؛ إن لم يكن مستحيلا بالفعل. فإذا كانت طالبان مستعدة لقطع علاقاتها مع القاعدة مقابل ثمن مجزٍ/ مُغْرٍ: السماح لها بالاستيلاء على كامل الأراضي الأفغانية، إضافة إلى الاعتراف الدولي بها، فإنها ـ بمنطق تكوينها وأهدافها ـ لا تستطيع الدخول في تعددية حقيقية تضمن شراكة فعلية للمتنوع العرقي والأيديولوجي الأفغاني، إذ الدخول في مثل هذه الشراكة يعني التنازل عن السلطة بدرجتها الضرورية التي تُمَكّنها من سَنّ التشريعات (التي تراها شرعية/ دينية، وتتشرعن بتطبيقها) وتنفيذها على أرض الواقع.

إذن، الممكن في سياق “التعددية الطالبانية” هو ـ في أحسن الأحوال ـ منح بقية الأطياف/ اللاَّطالبانيين بعضَ المناصب العامة، كوزارة أو وكالة وَزارة أو سفارة، ولكن ـ وهنا المحك الحقيقي ـ ستُمْنح هذه المناصب تحت مظلة الحكم الطالباني النافذ تشريعا وقضاءً وتنفيذا. بمعنى أن يصبح الوزير ـ مثلا ـ مُنَفّذا لأمينا للتشريعات الطالبانية على نحو التفصيل، ثم هو مُرَاقَب في سياسيات التنفيذ، فلا حق له في تبنيّ رأي خاص من شأنه أن يخرج على المتوافق عليه طالبانيا. وهنا، وفي النهاية، يتحوّل هذا الآخر/ الـ”غير طالباني” المشارك في الحكم إلى “طالباني فاعل” لا يختلف ـ في ممارسته التنفيذية ـ عن الطالباني الصميم. 

يتوقع المتفائلون بانفتاحٍ طالباني نسبي أن يكون لبعض الولايات والمناطق التي تتمتع بخصوصية دينية/ أيديولوجية أو عرقية، “بعض الاستقلال” في تشريع “بعض القوانين” وتنفيذ “بعض السياسيات” المحلية الخاصة. وهم يبنون تفاؤلهم هذا لا على تحولات مُحْتَملة في طبيعة الأيديولوجيا الطالبانية، وإنما على “منطق المصلحة” الذي ستضطر إليه طالبان اضطرارا؛ حتى تتمكن من تحقيق التسالم الداخلي الذي يضمن لها الاستقرار، ومن ثم الاعتراف بها ـ محليا ودوليا ـ كحاكم شرعي للبلاد. 

هذا ممكن، وهو أحد الحلول بلا شك، وإن كان ـ في تصوري ـ غير متوقّع. أستبعد حدوث هذا ـ إلا في نطاق ضيق جدا ـ في سياق الواقع الذي يؤكد أن طالبان لم تُهَيمن بمنطق التفاوض والتوافق، وإنما بمنطق القوة والإكراه. أعرف أن شرعية القوة تبقى ناقصة ومهدَّدة وقصيرة الأمد؛ إذا لم تُعْضَد بمستوى من التوافق. لكن، هل تعرف طالبان هذا؟ وهل تعترف به؟ وهل يسمح لها منطق الأيديولوجيا بترك مساحة من الخيارات التي تراها تقع في صميم الانحراف الديني؟! 

ومرة أخرى، الممكن في عملية تفويض نوع من السلطات إلى بعض الإدارات المحلية، هو سيكون ـ فقط ـ في “تكييف التنفيذ” للسياسات الطالبانية العامة، ففي النهاية لن يخرج التشريع/ التنفيذ في أية “ولاية” عن السياسة الشاملة الصادرة عن “أمير المؤمنين”، المسؤول أمام الله؛ ليس عن “دنيا” رعاياه من الأفغان فحسب، وإنما ـ وبدرجة أولى وأهم ـ عن “آخرتهم”، عن مُهِمَّته في وضعهم على الطريق المستقيم. 

طبعا، لا أحد يقول بأن طالبان ستطبق قناعاتها الأيديولوجية بالكامل، على كامل التراب الأفغاني، وعلى علاقاتها بالخارج أيضا. ضرورات الواقع تحكم بشيء من التغيير، وسيكون التغيير/ التنازل بمستوى الضرورة، الضرورة لاستقرار الحكم لهم، والضرورة لتسيير معاش الناس. لكن ـ وهنا مفترق الطرق بين الواقع الطالباني والمتوقع منه ـ ليس كل ما هو ضروري فعلا؛ تراه طالبان ضروريا، ليس كُلُّ ما يَعدَّه المراقبون/ المحللون شرطا للاستقرار أو شرطا للتنمية؛ تعدّه طالبان كذلك.

مثلا، كلنا يؤكد أن تعليم المرأة ضروري، وأن عملها ضروري، وكلاهما في أعلى درجات الضرورة. لو اقتنعت طالبان بهذا؛ فلا شك أنها ستسمح بتعليم المرأة وبعملها بحكم الضرورة في الشريعة؛ لا بحكم أصل الجواز الذي هو خارج منطقها السلفي. لكن طالبان ـ في أقصى درجات انفتاحها ـ قد ترى تعليم المرأة مفيدا، وقد ترى عملها مفيدا أيضا. ولكن، ليس ضروريا بالدرجة التي تسمح لها بالتوسع في فتح المدارس وإتاحة العمل العام لها على نطاق واسع (فهذا، على هذه الصورة، مستحيل). 

أعلى درجات الممكن فيما يخص حقوق المرأة الأفغانية هو أن تُوَفِّر لها طالبان، وعلى نطاق محدود، نوعا من التعليم الخاص بالإناث، أي في بيئة منفصلة تماما عن الرجال، وقد تفتح بعض الكليات المتخصصة التي تضمن الخدمات النسوية؛ دون أن تتضمن حقولا معرفية تراها الأيديولوجيا الطالبانية خاصة بالرجال. وكذلك عمل المرأة، فقد تُؤسِّس إداراتٍ معينة تستوعب وظائف نسوية خاصة؛ في بيئات منفصلة أيضا، ولكنها ـ في أفضل الأحوال ـ ستكون هذه هي الاستثناء من قاعدة أن العمل في الأساس هو من حق الرجال!   

المتفائلون قد يُوافقونني على أن هذا هو الممكن في سياق تفاعلات الراهن. لكنهم يُؤكّدون أن هذا الممكن، هذه البدايات الحذرة الخجولة، من شأنها أن تدفع ـ بالتدريج ـ إلى تحولات على أرض الواقع، تحولات لا تستطيع معها الأيديولوجيا إلا أن تتكيف، بل ولا تستطيع معها الأمزجة الذكورية المهيمنة إلا أن تؤمن بالحق الذي ينطق به الواقع: واقع حياة الناس. 

ومع أن هذا في تصوري مستبعد؛ إلا أنه ممكن/ متوقّع بدرجة ما. أو لأقول: إنه ممكن على مدى زمني طويل، مدى زمني تُسْتَنْزَف فيه الأعمار، وتَتضخّم فيه التضحيات المجانية بلا طائل، ويكون “المكتسب المتوقع” المتأخر كثيرا عن موعده، محضَ خسارة، وعنوانَ بؤس، وقاعدةً مجتمعية راسخة ينهض عليها واقعُ انحطاطٍ أليم. 

عموما، ما تستطيعه طالبان من تحولات/ متغيرات، ما هو ممكن ومتوقع في هذا السياق، ليس بالكثير فيما يخص الداخل الأفغاني. أما في علاقتهم في الخارج، فالشروط الأيديولوجية، والتحديات، أخفّ بكثير، إذ في النهاية كل التعهدات والمعاهدات، بل والتحالفات مع “الكفار” تجد مُسوّغاتها الشرعية الواضحة من داخل الفقهيات السلفية الطالبانية التي تستمد شرعيتها من وقائع التاريخ الأول للمسلمين. بينما الداخل الأفغاني ينتظر الكثير من “الانفتاح” الذي يقع ـ ضمن حدود الفقهيات السلفية الطالبانية ـ في دائرة المستحيل.

أخيرا، وِجْهةُ نظري أن التفاؤل بالمستقبل الأفغاني تحت الحكم الطالباني ليس له ما يُبرّره أيديولوجيا ولا واقعيا. وأقولها بكل صراحة: لا تتوقع كثيرا من التحولات الإيجابية في الإدارة الطالبانية؛ حتى لو أظهروا بعض الانفتاح، لا تتوقع التسامح حتى لو أعلنوا التسامح، بل حتى لو طبّقوا بعض الممارسات التي تؤكد تسامحهم، إذ هي لا تعدو أن تكون ضرورات مرحلية، ضرورات يتقدمون بها لا لتسيير حياة الإنسان/ المواطن الإفغاني، وإنما فقط للاشتغال على ما يُعْرف ـ حركيا/ سلفيا ـ بـ”ضرورات التمكين”.

شاهد أيضاً

بأية حال تعود الانتخابات في أمريكا!

بقلم: سمير التقي – النهار العربي الشرق اليوم- كل ثلاثة او أربعة عقود، وفي سياق …