الرئيسية / مقالات رأي / العراق ولبنان بعد أفغانستان؟

العراق ولبنان بعد أفغانستان؟

بقلم: حسن منيمنة – موقع الحرة

الشرق اليوم- ما هو الدرس المستفاد من انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، بعد قرابة عشرين عاماً من الاستثمار العسكري والأمني والسياسي، غير المسبوق لا زمنياً ولا مالياً؟

الإعلام العربي المعادي للتوّ للولايات المتحدة، ومعه بعض الإعلام الأكثر انفتاحاً على التقييم الإيجابي للأداء الأميركي في المنطقة، يذهب باتجاه نفي إمكانية الوثوق بواشنطن، وهي التي تخلّت عن حكومة كابل، بل أشبعتها الاتهامات وتحميل المسؤوليات عن الخاتمة الكارثية للوجود الأميركي في أفغانستان.

فبعد التخلي المفاجئ للرئيس الأسبق باراك أوباما عن الدور المفصلي للولايات المتحدة في العراق، وما أدّت إليه هذه الخطوة من تأجيج للصراعات السياسية الداخلية، ثم إلى استفادة تنظيم الدولة من الاختلال الحاصل للسيطرة على مدن رئيسية ومساحات واسعة من البلاد، وبعد إقدام أوباما نفسه على مغافلة الشركاء الخليجيين وهرولته إلى اتفاق مرتبك مع إيران، ثم بعد عبث الرئيس السابق دونالد ترامب بالخليج وعبث الخليج به، يأتي جو بايدن، صاحب الخبرة المفترضة بالشؤون الدولية لينجز انسحاباً من أفغانستان سوف تبقى صورته في التاريخ الاكتظاظ الهائل في المطار لجموع مستميتة للهروب، وصولاً إلى التشبث بالطائرات المغادرة والسقوط المريع منها عند الإقلاع.

السؤال الخطير، الذي يطرحه خصوم واشنطن سجالياً، فيما يتداوله أصدقاؤها بالريبة والخشية، هو أنه أليس بوسع من تخلّى عن أفغانستان أن يكرر الفعل في العراق ولبنان وحتى في الخليج؟ المقارنة، بل المعارضة التي يطرحها الخصوم، هي بين إيران، صاحبة النفس الطويل الملتزمة مبدئياً وبإصرار بدعم حلفائها، والولايات المتحدة، المتقلبة والمتذبذبة التي تعمد إلى توريط من يقع في مدارها، لتحقيق أدنى مصالحها، ولا تتوانى البتة عن التفريط بمن خدمها. فكل من توقع الفائدة منها احترق، وكل من صادقها عضّ أصابع الندامة.

المسألة ليست بالبساطة التي يتمناها التصوير المعادي للولايات المتحدة، وفي دقة التفاصيل ما ينقض الطرح السلبي بمجمله.

واقع الحال الذي يؤسس للتبدّل المتواصل في السياسات الأميركية أن الولايات المتحدة هي ذات نظام انتخابي تداولي، تتواجه فيه التصورات السياسية، ويخضع فيه المسؤولون السياسيون للمساءلة الدورية. أي أن الأفق المرتقب لأي سياسة أميركية محدود بالعهدة الرئاسية التي مدّتها أربع سنوات، قابلة للتجديد إلى ثمانية سنوات. أما ما يتبعها، فقد يتفق معها أو يختلف، وفق الرئاسة التالية، التي غالباً ما تكون ذات لون حزبي وتوجه عقائدي مغاير.

ولكن، في حين أن القراءات والتصورات لسياسات تحقيق المصالح الأميركية تتبدل بتداول الرئاسات، فإن المصالح نفسها تبقى أكثر استقراراً، إذ أن تبدلها لا يحسب بالسنين بل بالعقود. كما أن هذه المصالح لا تقتصر على الاعتبارات الأمنية والاقتصادية، بل تتعداها إلى الأوجه الإنسانية والاجتماعية، كما القيمية والمبدئية. وهذه الأوجه بدورها ليست انعكاساً لشخصية الرئيس أو طباع طاقمه، دون افتراض انعدامها هنا، بل هي تعبير عن الحضور في الوعي العام للمجتمع الأميركي، وعن التواصل بين أقسام من القاعدة الانتخابية والمجتمعات الخارجية التي تعود أصولها إليها.

وهذا الجانب الأخير، أي وجود جاليات فاعلة في الولايات المتحدة على تواصل وتسانُد مع مجتمعات في أنحاء العالم، يستفيد ويفيد في آن واحد القراءة الأولية المستقرة للمصالح الأميركية، التي مفادها بما يقارب الإجماع أن صالح الولايات المتحدة يتحقق بالتزامن مع صالح الآخرين، على أساس الحرية السياسية والحرية الاقتصادية والاستقرار الأمني على مدى الكوكب.

والخلاف السياسي في شأن السياسة الخارجية بين التوجهين المحافظ والتقدمي هو في خلاصته ما إذا كان على الولايات المتحدة التركيز على مصالحها وحسب، وتوقع أن يصاحب ذلك تحقق مصالح للآخرين تلقائياً، سواءً جاء السعي إلى تحقيق المصلحة بالصيغة الانطوائية أو الإقدامية، وهي الرؤية المحافظة، أو إذا ما كان على الولايات المتحدة الإشراف على منظومة دولية تضبط تطور مصالح الدول خارج افتراض التلقائية، وهي الرؤية التقدمية.

لا مكان، لا في الخطاب السياسي والنظريات الفكرية في الولايات المتحدة للأسطورة التسطيحية الأهوائية بأن أميركا تستفيد من تدمير العالم وسلب موارده، وأن الاقتصاد العالمي معادلة صفرية لا بد فيها من أن يخسر الآخرون كي تكسب أميركا.

بمطلق الوضوح، مع استعارة مؤسفة للهجة الاستئساد التي يعتمدها خصوم الولايات المتحدة، لو كانت تلك هي الرغبة الأميركية، لكان الأمر قد حصل، لما الولايات المتحدة عليه من جبروت عسكري وطاقة اقتصادية فائقة. ما يعترض هذه الحصيلة الوهمية ليست قدرة الخصوم على الصمود والتصدي، بل أولاً وجود الضوابط الداخلية في الولايات المتحدة لمنع التفاقم والسلوك الكارثي، انطلاقاً من القناعة الراسخة من أن الفائدة تعمّم، والضرر يعمّم على مستوى العالم.

فمن أراد التأثير على السياسة الأميركية، وإسماع صوت مصلحته في الولايات المتحدة، لن يصل إلى مبتغاه من خلال التشكي من إمكانية الوثوق بالولايات المتحدة من عدمه، بل من خلال الاعتماد على البنى السياسية الأميركية القائمة لإبراز مصلحته.

عقدان من الزمن على الانخراط المنقطع النظير للولايات المتحدة في أفغانستان، وقرابة العقدين على تواجد هام وكبير في العراق، صاحبها قصور صادح، أفغاني وعراقي، في الانتقال بهذه العلاقة من وجهها المرحلي السياسي الاستثماري إلى وجه الشراكة الاجتماعية البعيدة المدى. الأفغان معذورون إلى حد ما، حيث إن الحضور الأفغاني في الولايات المتحدة كان ضعيفاً ابتداءً. أما العراقيون، فلا عذر لهم.

الجالية العراقية، بل الأصح الجاليات العراقية، في الولايات المتحدة، وذلك لانقسام التواجد العراقي في الولايات المتحدة على أسس قومية وطائفية، لم تنجح بالارتقاء بصورة العراق إلى ما كانت هذه الصورة مؤهلة لأن تكون، بل بقيت على الغالب منكفئة.

وحده الحضور الكردي في واشنطن تمكن من نسج علاقات ومن تحسين نسبي في الصورة يجعل من الأكراد عامة، وكردستان العراق خاصة، حالة متميزة في التقارب الاجتماعي والثقافي مع بعض مقومات الواقع الاجتماعي هنا.

أما التقصير الفظيع فهو في الحالة اللبنانية. ذلك أن لبنان موضوعياً جزء لا يتجزأ من التجربة الأميركية، أي أن الإطار الفكري والثقافي للولايات المتحدة الذي صاغ الهوية والصورة الذاتية هنا ينضوي تاريخياً على حضور تكويني لبناني وعلى أوجه لبنانية، منهم على سبيل الذكر وحسب جبران خليل جبران، رالف نادر، داني توماس، كايسي قاسم، وعشرات من أعضاء مجالس النواب والشيوخ وحكام الولايات على مدى العقود.

والحضور اللبناني في الولايات المتحدة يعود إلى القرن التاسع عشر، وهو وازن عددياً. ورغم ذلك، فإن لبنان وقضاياه ليس حاضراً في الوعي الاجتماعي الأميركي، فيما يترك على عاتق بعض النشطاء السعي إلى إسماع صوت المواطن اللبناني، بنجاح متواضع محدود لا يتناسب البتّة مع القدرات والإمكانيات المعنوية قبل المادية المتاحة في لبنان والولايات المتحدة على حد سواء، وبما يتلوّن في العديد من الأحيان بلون طائفي قد يستقطب البعض القليل، ولكنه ينفّر العدد الكثير.

الخطوات التي تتخذها كل إدارة أميركية مقيّدة إلى حد ما بقراءتها للمصلحة الوطنية وفق منظورها العقائدي، ولكنها محكومة بالفائدة المباشرة لهذه الإدارة آنياً وانتخابياً وسياسياً. العلاقة البناءة مع الولايات المتحدة هي التي تنجح في توطيد المشترك بين المصالح الأميركية ومصالح الدول المعنية وإبرازه، والتي تعمل على تحصين الوعي المصلحي المتحقق من خلال تنشيط الأوساط المحلية في الولايات المتحدة، ذات الارتباط التاريخي مع الدول المعنية كما ذات الالتقاء القيمي معها، لإبراز الصوت المؤيد للمحافظ على التوافق بالمصالح.

هذا ما نجحت به بعض الدول والجاليات وما فشلت به أخرى. يطيب للبعض تشويه نجاح إسرائيل هنا من خلال تصويره على أنه استيلاء على الإرادة الأميركية. ليس الأمر كذلك. إسرائيل وحسب، من خلال تفاعلها مع الجاليات اليهودية والإنجيلية خاصة، تمكنت من تحقيق نجاح عميق ثابت نقل الهمّ الإسرائيلي إلى طليعة العناية السياسية في الولايات المتحدة. بل إن إسرائيل قد تفاعلت مع المجتمع والسياسة في الولايات المتحدة انطلاقاً من طبيعة التركيبة الأميركية، لا اعتماداً على أوهام تستدعي “الوحش الأميركي”، وكما نجحت إسرائيل، كذلك نجحت دول أخرى، غير أن العراق ولبنان ليسا من عدادهما.

فإذا كان تقييم الإدارة الأميركية الحالية أن انسحاباً من العراق أو تخلياً عن لبنان يجلب لها الفائدة الآنية، فباستثناء قلة تصرخ في البرية ليس ثمة من يذّكرها بخلاف ذلك، وبالثمن المترتب عن تلك الخطوة للمصلحة الوطنية من جهة، وللحظوظ الانتخابية في المرحلة المقبلة من جهة أخرى.

رئيس الحكومة العراقي مصطفى الكاظمي يدرك تماماً هذا النقص وهذه الحاجة، ويعمل جاهداً لتصحيح الأوضاع، وجهوده تنصب لمنع خطوة من الإدارة الأميركية تفرّط بالمصلحة العراقية. أما في لبنان، فثمة من يدرك ولا يبالي، وثمة من لا يدرك ابتداءً، والسعيد هو المتفرج على هذا وذاك، إذ يتحقق له ولوليه الفقيه في طهران المراد.

شاهد أيضاً

أحلام مقتدى الصّدر وأوهام مناصريه

بقلم: فاروق يوسف- النهار العربيالشرق اليوم– عندما يُشفى العراقيون من عقدة اسمها مقتدى الصدر يكون …