الرئيسية / مقالات رأي / العراقَان: الكوفة والبصرة “بين الحق والغلبة”

العراقَان: الكوفة والبصرة “بين الحق والغلبة”

بقلم: حسن إسميك – العرب اللندنية

حال ما يجمع بين البصرة والكوفة، كحال ما يجمع بين الكثير من المدن المتلازمة، حتى كان إذا قيل العراق فمعناه البصرة والكوفة، وكان يطلق عليهما أحياناً اسم العراقَين. ورغم هذا التلازم الثنائي، يقول حسن إسميك، كانت النزعات السياسية العنوان الأبرز لتاريخ “العراقين” ابتداء من موقعة الجمل.

الشرق اليوم- تتميز لغتنا العربية، لغة القرآن الكريم، بكثرة قواعدها النحوية التي استُنبطت عبر عقود طويلة من الزمن، حيث بدأ وضع القواعد اللغوية على يدي أبي الأسود الدؤلي الكناني، بعد أن كثر اللحن في اللغة من غير العرب، ويقال إن الدؤلي عرض قواعده على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فاستحسنها قائلا: “ما أحسن هذا النحو الذي نحوت”، فسمي علم قواعد اللغة العربية نحواً.

وكان قد انتشر اللحن (أو اعوجاج القول) في اللغة كنتيجة طبيعية لانتشار الإسلام وتوسع رقعة دولته على بقاع جديدة من الأرض والبشر، وعليه فليس بغريب أن تتأسس أولى المدارس النحوية في أولى المدن الإسلامية (خارج شبه الجزيرة).. البصرة والكوفة، اللتين كثر بين سكانهما الداخلون الجدد في الإسلام من غير العرب.

قصة مدينتين

أُسست البصرة على يدي عتبة بن غزوان، على بقايا (تردم) الكلدانية سنة 14 هـ (635 م) في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وسميت بذلك كون أرضها بصرة (حصبة). ويُحكى من الطرائف عنها أنه لما دخلها المسلمون وجدوا فيها خبز “الصمون” الذي اشتُهر بأنه يسمّن فكانوا يأكلون منه وينظرون إلى سواعدهم ويقولون: “ما نرى سمنا”!

أما الكوفة فجاء تأسيسها على يد سعد بن أبي وقَّاص بعد توأماتها البصرة بعدة أشهر أو بثلاث سنوات (تختلف الروايات)، ويقال في سنة 17 هـ (638 م)، وذلك بعد طرد فلول القوات الساسانية إلى النجد الفارسي، وحاجة المسلمين لإنشاء دار هجرة على تخوم البلاد المفتوحة، فكانت مستقراً للمجاهدين العرب، ولعل هذا الحدث المتمثل بالفتح كان السمة المميزة لتاريخ هذه المدينة.

تنافس سياسي ولغوي

كانت البصرة والكوفة أبرز حواضر العراق قاطبة، حتى كان إذا قيل العراق فمعناه البصرة والكوفة، وكان يطلق عليهما أحياناً اسم العراقين، وعلى الرغم من هذا التلازم الثنائي بينهما، إلا أن النزعات السياسية كانت العنوان الأبرز لتاريخ “العراقين” ابتداء من موقعة الجمل، حيث نزل علي بن أبي طالب وجماعته في الكوفة جاعلاً إياها مقراً لخلافته، فيما اتخذت أم المؤمنين عائشة من البصرة مهبطاً لها، ومنذ تلك الواقعة أمسى هوى البصرة عثمانياً أمويا وهوى الكوفة علوياً هاشمياً، ليزداد الاختلاف بتعاقب الأيام، فناصر البصريون دولة بني أمية، قبل أن تنقلب الأمور لغير صالحهم فتُعز الكوفة وتُهمل البصرة أيام الدولة العباسية.

اتخذ التنافس بين الكوفة والبصرة مظاهر متعددة، أهمها وأطرفها المفاخرات البلدانيّة، الذي جاء بعد استقرار القبائل العربية في الأمصار الإسلامية المفتوحة بحسب ما يروي عمر حمدان في كتابه الذي يحمل الاسم نفسه “أدب المفاخرات البلدانية”، فحلّت عصبية الموطن الجديد مكان عصبية القبيلة في سابقة لم يعرفها العرب المتعصبون لانتماءاتهم القبلية من قبل، وكان من أشهر المفاخرات تلك التي وقعت في مجلس الخليفة العباسي أبوالعباس السفاح، بين أبي بكر الهذلي (الذي مثّل البصرة) من جهة، وبين محمد بن عبدالرحمن مع الحجاج بن أرطأة (اللذَين مثّلا الكوفة) من جهة ثانية، كما حضرها الحسن بن زيد بن الحسين (مخاصماً لأهل البصرة).

ومن أبرز ما ورد فيها أن الحسن بن زيد خاطب الهذلي قائلاً “أنتم أصحابُ عليّ يوم سرتم إليه لتقتلوه”، فأجابه الهذلي “نحن والله أصحابُ عليّ يوم سرنا لنقتله، فكف الله أيدينا وشوكتنا عنه وعن غيره. وسار إليه أهل الكوفة فقتلوه، فأيُّنا أعظم ذنباً”؟ في المقابل أقرّ الهذلي للكوفيين بأنهم متفوقون بتعداد علمائهم وغزارة علمهم، لكنه ردّ عليهم بأن لا نفع للعلم إذا كانوا على مفسدة من الأخلاق والسلوك، وذلك بعد إدعاء عدد منهم للنبوة، فعوقبوا من قبل أهل الكوفة بالصلب وضرب الأعناق، ما دعا الهذلي للقول “والله ما رأيت بلداً قط أكثر نبياً مصلوباً ولا رأساً مضروباً من أهل الكوفة”!

الأغرب في تلك المناظرة، أنه لمّا ضاق الأمر على الكوفيين عادوا إلى حسبهم ونسبهم ليتفاخروا بهما، فقال محمد بن عبدالرحمن مخاطباً أبا العباس السفاح “نحن أشرف منهم أشرافاً وأذكر منهم أسلافاً. مُقِرٌ بذلك أبوبكر”، لكن أبا بكر لم يقره بذلك، قال “فقلت: معاذ الله”، ثم أكمل “هل كان في تميم الكوفة مثل الأحنف بن قيس في تميم البصرة.. وهل كان في قيس الكوفة مثل قتيبة بن مسلم في قيس البصرة.. وهل كان في أزد الكوفة مثل المهلب في أزد البصرة”، وكان كلما ذكر اسماً يُتبعه بأبيات من الشعر نُظمت في صاحبه، وكأن أبناء القبيلة الواحدة والفخذ الواحد والجد الواحد عندما انقسموا بين كوفة وبصرة، انقسمت معهم الحظوة والمكانة!

ومع انتهاء تلك الجولة التفاخرية لصالح البصري على الكوفيين، ضحك الخليفة بحرارة قائلاً “والله ما رأيت مثل هذه الغلبة قط”.

المسألة الزنبورية

المسألة الزنبورية هي عنوان أشهر مناظرات تاريخ النحو الذي اشتهرت به المدينتان شهرة بلغت الآفاق، وكان أول بطليها إمام النحاة سيبويه (سيبويه: كلمة فارسية تعني رائحة التفاح)، الذي قدم البصرة صغيراً ليتتلمذ على أيدي علمائها، وثانيهما الكسائي (معلم الرشيد وابنه الأمين) الذي يعد من حجج الكوفة في اللغة والنحو وأحد القراء السبعة المشهورين (وكليهما من أصول فارسية)، وكان أن قصد سيبويه بغداد ونزل ضيفاً على يحيى البرمكي وزير الرشيد فأكرمه، ثم دُعي إلى مناظرة نحوية مع الكسائي فأبدع الاثنان فيها، إلى أن سأل الكسائي سيبويه حول كيفية القول في عبارة “كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور، فإذا هو هي، أم فإذا هو إياها”؟، أجاب سيبويه “فإذا هو هي، ولا يجوز النصب”، فخطّأه الكسائي بالقول إن النصب جائز، وعليه فالوجهان صحيحان.

واحتدم الخلاف بينهما طويلاً؛ ولحل المسألة احتكم الطرفان إلى مجموعة من العرب الأقحاح الذين ينطقون اللغة على سليقتها، إلا أن تدخلاً سياسياً من وراء الكواليس دفع العرب بأن ينصروا الكسائي رغم خطأ ما ادعاه من جواز الوجهين، فطالبهم سيبويه بنطق الجملة منصوبة، فلم تطاوعهم ألسنتهم وتهربوا من الأمر، فانقبض خاطر سيبويه وخرج من مجلس الوزير مدبراً إلى بلاد فارس، لخجله من لقاء أهل البصرة، ولم يمض وقت طويل حتى مات مغموماً بحسب ما تخبر به الروايات، وعلى الرغم من أن الحق كان لسيبويه، إلا أن الغلبة كانت للكسائي.

يرى ابن خلدون أن الأصل في العصبية القرابة من النسب “النعرة على أهل القربى وذوي الأرحام”، مع ذلك فهو يقرّ بألا قيمة في النسب إلا إذا كان به رابطة مصلحة، وإلا فهو كما يقال “مثل علم لا ينفع، وجهالة لا تضر”، أما المهم عند ابن خلدون فهي العصبية، وقد نظر إليها في إطار تحولها من مجرد قرابة الدم والنسب إلى قوة اجتماعية تسمح لها بالغلبة ونيل السلطة على أساس القرابة، فالنسب لا يعني بالضرورة قرابة الدم بقدر الانتماء الفعلي لجماعة معينة.

عصبية النسب

وتثبت المسألة الزنبورية الآنفة الذكر أن حقيقة الصراع والعصبية لم تكن بين سيبويه والكسائي، وإنما بين البصريين والكوفيين، إنه صراع المصالح والولاء، حيث هيمنت مدرسة الكوفة في تلك الفترة لأسباب سياسية، والتي عبّر عنها الوزير البرمكي في تعقيبه على مناظرة ثانية بين الكسائي واليزيدي، غلب فيها الثاني الأول، بالقول “خطأ الكسائي مع حسن أدبه أحب إلينا من صوابك مع سوء أدبك”، وكان ذلك تعبيراً عن غضبه لكشف رأسه أمام الرشيد بعد أن ضرب قلنسوته بالأرض. وكان اليزيدي مناصراً لسيبويه، وأنشد في المسألة الزنبورية شعراً ختمه بالقول: (إن الكسائي وأصحابه/ يرقون في النحو إلى أسفل).

وأخيرا..

حال البصرة والكوفة في التاريخ هو حال مدن كثيرة في الحضارة العربية الإسلامية، لم تُترك لشأنها كي تنمو وتستمر وتتطور، بل لقد كان لموقف السلطة من سكانها، أو من الأحداث التي جرت على أرضها، الأثر البالغ إما في ازدهارها وتطورها، أو في إهمالها ومحاربة تأثيرها وحضورها تعود فتصغر وتنكمش على ذاتها ويخفت ذكرها.

فدمشق مثلاً التي مثلت عاصمة بني أمية ودار دولتهم حتى صارت مركز ثقل العالم القديم آنذاك، عُوقبت أيام العباسيين بالإهمال والتفريط حتى تكاد تمر العشرات من العقود دون أن يذكرها التاريخ بشيء، وهكذا استمر الحال بعد العباسيين في الدول المتعاقبة التي حكمت المنطقة انتهاء بحكم العثمانيين، قبل أن يعلن الملك فيصل دمشق عاصمة المملكة السورية عام 1920، ثم عاد الفرنسيون فأسقطوا المملكة الناشئة بعد معركة ميسلون الشهيرة من العام ذاته، ونُفى فيصل المدعوم من بريطانيا خارج دمشق، ولكنها استمرت كعاصمة عربية مهمة إلى اليوم، يحمل أكبر ميدانين فيها اسمي: ساحة الأمويين وساحة العباسيين، ربما كإشارة خفية إلى أن تاريخنا سيبقى حاضراً في مصائر مدننا بخيره وشره.

أخيراً.. إن حال ما يجمع بين البصرة والكوفة، كحال ما يجمع بين الكثير من المدن المتلازمة كمكة والمدينة أو دمشق وحلب، أو القاهرة والإسكندرية، إنه حال الجناح للجناح في جسد الطير الواحد، فكيف يمكن لواحدة من المدن التوأمية أن تعلو وترتفع دون جناحها الثاني، والحقيقة أن عصبية المصلحة والولاء لعبت أثراً مدمراً منذ قرون طويلة من الزمن، تنازعت فيها بعض المدن العربية مقدمة السياسة على كل ما عداها، حتى وصلت الأمور كما في المسألة الزنبورية إلى تضليل الحقيقة وتلوينها بالأسود، لا لشيء سوى لعصبية مقيتة يمارسها أصحاب الجذر الواحد، فكأن فروع الشجرة تشرب كل منها من ماء بئر مختلف أو كأنها تتغذى على تربة منفصلة عن بعضها البعض.

وصلت أمور المفاخرة بين العرب بعد الإسلام لدرجة باتوا يميزون فيها بين قيسي وقيسي، تميمي وتميمي، أزدي وأزدي، فتفرقوا عن بعضهم بعضاً ولم يتوحدوا إلا أمام الآلاف من لسعات الزنابير ولدغات العقارب التي سممت جسد الأمة وأوهنت أجنحتها، فما نالته هذه الفئة من جراح وآلام، ناله ذلك المجموع من جراح وآلام.. فإذا هو هي، كما قال سيبويه منذ البداية!

شاهد أيضاً

كيسنجر يطارد بلينكن

بقلم: غسان شربل – صحيفة الشرق الأوسط الشرق اليوم- ذهب أنتوني بلينكن إلى جامعة هارفارد. …