الرئيسية / مقالات رأي / الذاهبون إلى أفغانستان!

الذاهبون إلى أفغانستان!

بقلم: محمد صلاح – النهار العربي

الشرق اليوم- حتى العام 1992 لم يكن أحد يعرف أن أفغانستان ظلت على مدى عقد أو أكثر بوتقة انصهرت فيها وتداخلت وانشطرت داخلها حركات إرهابية متأسلمة، فقبلها كانت وسائل إعلام عربية تشجع سفر المتطرفين الى هناك، وجرى برعاية الحكومات تسفير آلاف من هؤلاء ربما للخلاص من خطرهم أو تفادي التعامل او الصدام معهم، حتى أعلنت السلطات المصرية في ذلك العام عن قضية أطلقت عليها اسم: العائدون من أفغانستان، تضمنت تفاصيل مذهلة عن نشاط هؤلاء الذين أطلق عليهم اسم الأفغان العرب، الذين سافروا بطرق قانونية للانضمام الى المجاهدين الأفغان لمواجهة الاحتلال السوفياتي لذلك البلد من دون أن تفطن أجهزة الاستخبارات الى خطرهم الداهم في المستقبل. لكن وقائع القضية كشفت أن مخططاً كبيراً جرى تنفيذه هناك لتدريب عشرات الآلاف من المتطرفين العرب والأجانب على استخدام السلاح وتنفيذ عمليات إرهابية، وتحوّل كل هؤلاء الى ألغام وقنابل عنقودية بعدما عادوا الى بلدانهم أو توزعوا على دول العالم الذي شهد بعدها مسلسلاً طويلاً من العمليات الإرهابية.

وقتها لم تكن حركة “طالبان” ظهرت بعد، لكن يبدو أن المخطط كان يتم على أكثر من مسار، عرفنا بعدها أن كلمة “طالبان” تعني باللغة الأفغانية الطلبة وأطلقت على هذه الحركة لأن عناصرها كانوا من الطلبة الذين فروا من أفغانستان الى باكستان إبان الاحتلال السوفياتي، ودرسوا في الجامعات في مدينتي بيشاور وإسلام أباد.

ولما كانت دراستهم في العلوم الإسلامية خرجوا بأيدلوجيا متطرفة تنتمي إلي فكر أبي الأعلى المودودي والذي أسس الجماعة الإسلامية في باكستان واستقى فكره من فتاوى ابن تيميه المتشددة، وإمامهم أبو منصور الماتوريدي، أحد أعلام أهل السنّة، ومذهبه قريب جداً من مذهب أبي الحسن الأشعري، وهم في نظر “داعش” و”القاعدة”: مبتدعة لأنهم على خلاف المذهب السلفي المعروف اليوم وبعض الناس يحكم عليهم من خلال زيهم، لكن هذا هو زيّ الأفغان التقليدي خصوصاً بالنسبة إلى طلاب الشريعة.

خرج الروس من أفغانستان وانقسم الأفغان إلى ميليشيات متناحرة وكان هناك أمراء الحرب أمثال سيف الدين ورباني وعبد الرسول سياف وقلب الدين حكمتيار، وكانت “طالبان” حركة ناشئة لكنها ارتبطت بتنظيم القاعدة وأسامة بن لادن الذي آثر الانتقال إلى السودان لكي لا يحارب مع فصيل إسلامي ضد فصيل آخر. ولما سيطرت الحركة على الأمور عاد بن لادن ليرتبط بها بل ويصاهر أميرها الملا محمد عمر.

وكانت هناك أمريكا التي ورثت معاناة التواجد هناك بديلاً من السوفيات وظهر أخيراً أنها كانت تحلم بالخروج من هذا المستنقع الذي كلفها تريليوناً من الدولارات للإنتقام من بن لادن بعد اتهامه وتنظيم “القاعدة” بتفجير البرجين في 11 أيلول (سبتمبر) 2001.

الوقائع التاريخية معروفة وعلاقات التداخل والانفصال بين الجماعات الإرهابية جرى دراستها وتسجيلها والخروج بنتائج أهمها أن أفغانستان كانت نقطة ارتكاز انطلق منها الإرهابيون ليتسرطنوا في بلدان العالم. يخرج الأمريكيون من هناك لتسيطر “طالبان” على كابول العاصمة وباقي المدن، ويفر الرئيس الأفغاني في مشهد درامي يزيد من الاعتقاد أنه معد مسبقاً، والخلاصة أن أمريكا انسحبت وأن المجال أفسح للحركة لأن تستولي على الحكم، وأن الواقع يشير الى أن هناك نظاماً إسلامياً سنّياً متشدداً يهدد كل من جنوب روسيا لصالح الأمن القومي الأمريكي ليتكرر الفشل، ويترسخ الاعتقاد برعاية أمريكا للتطرف كما رعته من “الإخوان” وحتى “داعش” بعدما كانت تتصور إمكان التعايش التوافقي الأفغاني ليظهر للعالم ضآلة أجهزة مخابراتها وضحالة دبلوماسيتها.

أصبحنا الآن أمام واقع جديد وتساؤلات أخرى غير تلك التي كانت تدور في السنوات أو حتى الشهور الماضية وغالبيتها تتعلق بمستقبل الحركات الإرهابية المتأسلمة التي تبحث دائماً عن مكان للتجمع والتدريب والإعداد ثم الانطلاق، بغض النظر عن التناقضات المذهبية أو الفكرية بينها وبين “طالبان”، فالوقائع كلها أثبتت أن تلك التنظيمات لديها دائماً مبررات للتعاون مع الشيطان والتحالف مع كل طرف يحقق لها مصالحها أو يساعدها في تحقيق أهدافها، ولا يجب أن نعوّل على هؤلاء الذين فروا من بلدانهم أو المطلوبين فيها ويخشون العودة، فهدفهم معروف وأفغانستان بالنسبة إليهم مكان آمن اذا ما حصلوا من الحكم الجديد – القديم في أفغانستان على عهد بالأمان.

الأمر يتوقف على “طالبان”، وبغض النظر عن مشاهد عناصر الحركة في مدينة ملاهي كابول أو التصريحات التي صدرت عن قادة الحركة وحملت تطمينات ووعوداً بنأي الحركة بنفسها عن التورط في التحالف مع الإرهابيين أو استخدام الأراضي الأفغانية لاستهداف أنظمة الحكم أو شعوب دول أخرى، فليس هناك أي دولة في العالم أقرت بوقوفها مع الإرهاب او دعمها للإرهابيين، حيث مثّلت عودة “طالبان” الى حكم أفغانستان منعطفاً يستحق المراقبة والتدقيق والملاحظة والترقب. المهم الآن أن تجهز الدول المستهدفة من الإرهابيين أجهزتها للتعاطي مع واقع جديد أكثر صعوبة، وكما رصدت في ماضٍ قريب ظاهرة “العائدون من أفغانستان” عليها أن تترقب تكرار الظاهرة ولكن في اتجاه آخر: الذاهبون الى أفغانستان، فتلك الأجهزة حصلت بالتأكيد على خبرات من التجربة المصرية التي تكررت مع بلدان أخرى لاصطياد العائدين لكن مهمتها ستكون أصعب هذه المرة، فالمتطرفون انتشروا في بلدان أخرى ومناطق ساخنة بعيدة واختيارهم أفغانستان مكاناً للتجمع من جديد يجعل من وصولهم الى هناك مسألة تسهّل عودتهم الى بلدانهم اذا أرادوا. أما تصريح المتحدث باسم المكتب السياسي لـ”طالبان”، محمد نعيم، من أن تنظيم “القاعدة” غير موجود في أفغانستان وليست للحركة علاقة به، فلا يمكن التعاطي معه بجدية في الوقت الحالي، فالأفغان العرب كان ينظر إليهم، حتى بواسطة الدول التي استهدفوها لاحقاً، باعتبارهم مناضلين يستحقون أوسمة بينما كانوا هم يرتبون لنقل الأسلحة والمتفجرات وقتل الناس.

شاهد أيضاً

رهان أمريكا على الهدنة

بقلم: يونس السيد – صحيفة الخليج الشرق اليوم- فرضت غزة نفسها بقوة على صانع القرار …