الرئيسية / مقالات رأي / مقالٌ مليء بـ”الكذب”!

مقالٌ مليء بـ”الكذب”!

بقلم: حسن إسميك – العرب اللندنية

الشرق اليوم- القضية الأولى ليست صحيحة، فالمقال كما وصفه عنوانه “مليء بالكذب”، لكن إذا كانت هذه القضية كاذبة، يعني أن العنوان ليس صادقا، ولكن المقال صادق، ومن ضمنه القضية الأولى، ما يعني أن العنوان صادق! بالطبع سيستمر تسلسل الدور في هذه الحلقة المفرغة إلى ما شاء الله.

يُعرف ما سبق في الفلسفة والمنطق باسم مفارقة كريت أو “معضلة الكذَّاب”، وهي واحدة من الحجج الجدلية التي تنسب إلى الفيلسوف اليوناني أوبوليدس الملطي الذي عاش بين القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، ما يعني أن التفكير في “الكذب” قديم للغاية، ويكاد يكون قدم التفكير ذاته.

الكذب بأبسط تعريفاته هو “الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه”، وهو فعل مذموم أخلاقيا ومحرم في كل الأديان، السماوية منها وغير السماوية. لكن، شئنا أم أبينا، فإن الأكاذيب أصبحت اليوم عماد “مجتمعاتنا الحديثة”، وجزءا من تركيبة حمضها النووي، ورغم كل التسميات المنمقة التي قد نسبغها عليها من قبيل التسويق أو البروباغندا أو الإعلان أو الدعاية، إلا أنها تظل في جوهرها كذبا، سواء أكان من يطلقها بائع بضائع مستعملة في دكان صغير، أو سياسيا وازنا من على منبر إعلامي عالمي يتهم بلدا بامتلاك أسلحة دمار شامل ويبدأ بذلك حربا لن تنتهي لسنوات.

“إذا أعدت الكذبة مرارا وتكرارا، عندها سيتم قبولها على أنها حقيقة”.

من منا لا يعرف هذه المقولة الشهيرة للسياسي النازي الألماني بول يوزِف غوبلز الذي كان وزير دعاية هتلر بين عامي 1933 و1945. ومن منا لم يمر يوما على صورة اللوحة الجدارية، الشهيرة أيضا، والتي تقوم طفلة صغيرة فيها باستبدال كلمة “حقيقة” من المقولة لتصير “إذا أعدت الكذبة مرارا وتكرارا، عندها سيتم قبولها على أنها سياسة”!

ما هذا الرابط العجيب بين السياسة والكذب؟ ولماذا يفترض الوعي الجمعي العام أن كل السياسيين كاذبون، ويتعاملون مع هذا الأمر وكأنه مسلّمة؟ ولماذا لا يعمد هؤلاء السياسيون إلى القيام بأي شيء لتغيير هذه الصورة النمطية؟ والسؤال الأهم أهذه “صورة نمطية” وحسب، أم أنها بالفعل حقيقة، عابرة للحدود وللجغرافيا ولطبيعة الأنظمة السياسية وأنواعها، ولجنسيات السياسيين وانتماءاتهم؟

إذا كان الكذب بالعموم أمرا مكروها ويخلق الكثير من المشاكل بين الناس، فإن الأكاذيب السياسية أدت في مناسبات كثيرة إلى نشوب حروب ومجاعات وإبادات جماعية

إذا كان الكذب بالعموم أمرا مكروها ويخلق الكثير من المشاكل بين الناس، فإن الأكاذيب السياسية أدت في مناسبات كثيرة إلى نشوب حروب ومجاعات وإبادات جماعية، وعدد لا يحصى من الفظائع الأخرى في جميع أنحاء العالم، لكن السياسيين لا يتوقفون أبدا عن الكذب، كيف لا وهناك أدبيات لا تعد وكتب لا تحصى، لفلاسفة وسياسيين ومفكرين، تبرر لهم فعلهم هذا وتسوغه مرة بحجة النفع ومرة بدافع المصلحة العليا، أو بذريعة الحفاظ على الأمن… وتمتد السلسلة.

يقول الفيلسوف الألماني وأحد أهم مفكري عصر التنوير إيمانويل كانط :إن المرء غير معذور في الكذب، حتى وإن كان يكذب على قاتل لمنعه من الوصول لضحيته”. لكن للأسف لا يتفق كثير من المفكرين معه، بداية من أفلاطون الذي أوجد مصطلح “الكذبة النبيلة”، وهو مفهوم سياسي ورد بداية في كتاب “الجمهورية” والذي يطرح فيه، وعلى لسان سقراط، الحاجة لأكاذيب تؤسِّس للمجتمع، وتوفِّر له الاستقرار، ويعمد أفلاطون نفسه إلى صياغة “أسطورة المعادن” ليقتنع الأفراد بوضعهم ومكانتهم في طبقات المجتمع، فلا يفكر أحد بالخروج من طبقته إلى طبقة أعلى ليظلَّ الحكام آمنين في طبقتهم بلا منافسة تشغلهم عن إدارة أمور البلاد.

تبنى العالم والفيلسوف المسلم الشهير أبوالنصر الفارابي فكرة “الكذب النبيل” هذه أيضا، وجعلها واحدا من أركان نظرية الحكم لديه. ولا يمكن أن ننسى في هذا السياق نيكولو مكيافيلي الذي ذهب إلى أبعد من الكذب حيث كتب في القرن السادس عشر ما معناه أن القائد الذي يحاول أن يكون صادقا لكنه يكذب عندما يقول الحقيقة سيضع نفسه في وضع غير مؤات، فقد لاحظ مكيافيلي أن الناس لا يحبون أن يُكذَب عليهم، ولكن “الشخص الذي يخدع سيجد دائما أولئك الذين يسمحون لأنفسهم بأن ينخدعوا”.

وفي الحقيقة، يحفل تاريخ الأفكار السياسية بهذا النوع من الأمثلة، وتقول المنظرة السياسية حنة آرنت “لم يُحسب الصدق أبدا من بين الفضائل السياسية، وكان يُنظر دائما إلى الأكاذيب على أنها أدوات مبرَرة في التعاملات السياسية”. جاءت كلمات آرنت هذه في مقال بعنوان “الكذب في السياسة: تأملات في أوراق البنتاغون” نشر عام 1971 على ضوء التقرير الحكومي الأميركي السري المسرب حول التورط السياسي والعسكري التاريخي لوزارة الدفاع في فيتنام خلال الفترة الممتدة من 1945 حتى 1967. وقبل ذلك، وعلى صفحات صحيفة “ذا نيويوركر” عام 1967، كانت الباحثة الأميركية ذات الأصول الألمانية قد ناقشت الصلة بين “الحقيقة والسياسة” في مقال سابق لها يحمل نفس العنوان، ووجدت أنها معضلة قديمة قدم الفلسفة والسياسة نفسيهما، حيث كان تبرير الغايات السياسية يتفوق على الصدق، بحيث يصبح الكذب، عندما يكون له ما يبرره سياسيا، أمرا مبررا.

يخبو الحديث عن الكذب في السياسة أحيانا، ويعود ليعلو في مناسبات أخرى نتيجة أحداث أو وقائع أو ظروف سياسية معينة تقتضي إعادة البحث والتفكير بهذا الموضوع، خاصة عندما تتجاوز تأثيرات الكذب الحد المتعارف على “السماح به” من قبل الشعوب ومن قبل سياسيين آخرين. وقد شهدت الأعوام الأخيرة من العقد الماضي تصاعد وتيرة الحديث عن “الكذب والخداع” السياسي، ترافق ذلك أو نتج عن حدثين رئيسين أولهما كان في بريطانيا، تلك الدولة التي تعدُّ نفسها من أعتى حصون الديمقراطية، حيث صوت مواطنوها عام 2016 على مغادرة بلادهم الاتحاد الأوروبي في ضوء مزاعم المعسكر المؤيد لهذا الخروج بأن بريطانيا ستحصّل نحو أو 440 مليون دولار كل أسبوع ستضاف للخدمات الصحية الحكومية في البلاد. ذلك المعسكر، وزعيمه بوريس جونسون، الذي أصبح منذ ذلك الحين رئيس وزراء بريطانيا، اعترفوا لاحقا بأنهم كانوا “على خطأ”.

أما الحدث الثاني فقد كان وصول دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة الأميركية عام 2016، الأمر الذي عده كثيرون تتويجا لأحلام التيار الشعبوي، الذي كان قد حقق بعض الانتصارات ووصل إلى الحكم في بلدان مثل المجر وبولندا وتركيا والفلبين، هؤلاء “القادة” الشعبويون ليسوا بارعين في الكذب فقط بل وفي خلق الحقيقة أو اختراعها صراحة.

ليس الكذب بالأمر الغريب على الرؤساء الأميركيين، ولا نبالغ إذا قلنا إن كل واحد منهم لديه “كذبته” التي يشتهر بها، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر، تستر دوايت أيزنهاور، المصنف كواحد من أعظم الرؤساء، لولا كذبته عن تحليق طائرات التجسس الأميركية في الاتحاد السوفيتي، الأمر الذي تحول لثروة دعائية للزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف؛ وإنكار جون كينيدي أنه مصاب بمرض أديسون، وفي مناسبة أخرى ادعاؤه المرض لإلغاء جولة حتى يتمكن من مقابلة كبار مساعديه حول أزمة الصواريخ الكوبية التي كانت لا تزال سرية؛ أو إنكار بيل كلينتون علاقته مع مونيكا لوينسكي؛ ولا ننسى هنا أيضا فضيحة ووترغيت التي استقال على إثرها الرئيس ريتشارد نيكسون، وهو الذي أخفى قبلا القصف السري لكمبوديا؛ كذلك لدينا تلاعب الرئيس ليندون جونسون بالحقائق ليقلل من خسائر الحرب في فيتنام؛ ونفي الرئيس رونالد ريغان فضيحة إيران كونترا… وغيرها كثير. لكن، لماذا التركيز الكبير على أكاذيب دونالد ترامب؟

يمكن لأي سياسي، هاو كان أو مخضرما، أن يمارس الكذب والخداع في السياسة، إلا أن ترامب والتيارات الشعبوية بالعموم تنقل الناس إلى عالم “ما بعد الحقيقة”.

عام 2016، وبعد الانتخابات الأميركية مباشرة، عدت قواميس أكسفورد الإنجليزية اصطلاح “ما بعد الحقيقة” كلمة واحدة ومنحته لقب مصطلح العام، وعرفوه على أنه “يتعلق أو يشير إلى الظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيرا في تشكيل الرأي العام بالمقارنة مع نداء العاطفة والمعتقدات الشخصية”، أو بعبارة أخرى عندما تصير للأيديولوجيا أسبقية على الواقع، وتحل الحقائق البديلة محل الحقائق الفعلية ويكون للمشاعر وزن أكبر من الأدلة.

الكذب بأبسط تعريفاته هو “الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه”، وهو فعل مذموم أخلاقيا ومحرم في كل الأديان، السماوية منها وغير السماوية

وفي هذه الحالة، قد يدرك السياسي، أو لا يدرك، أنه يكذب، لكنه يعلم يقينا أن الجمهور لا يصدقه، ورغم ذلك يستمر في صياغة الواقع كما يراه، إنه يخلق واقعه الخاص، فهو لا يريد مخاطبة العقول وإقناع الآخرين لأن هدفه الأول هو الهيمنة، والتأكيد على ما يمتلكه من قوة، تسمح له بأن يكذب دون أن يخشى أي عقاب. الكذب الذي يسهم في الانتقال إلى “عالم ما بعد الحقيقة” هو الذي يستفز المفكرين في الغرب، فكل الكذب السابق مهما كان حجمه هو كذب “يحترم” الديمقراطية، وأهدافه في الغالب انتخابية بحتة ولإرضاء “دافعي الضرائب”، أما اليوم فيستحيل الكذب والخداع السياسي فأسا يدق شجرة الديمقراطية من الجذور، ولن يلبث أن يتحول إلى جارتها، شجرة الليبرالية، وكل ما تثمره من حريات فردية وجماعية. لقد وصف المؤرخ الأميركي تيموثي سنايدر كلمة “ما بعد الحقيقة” بأنها تعادل تقريبا “ما قبل الفاشية”.

يعيش عالمنا العربي حالة “ما بعد الحقيقة” هذه منذ أكثر من نصف قرن، حيث يلجأ سياسيوه إلى الكذب، ولا يتوقفون عنه، رغم إدراكهم الكامل أن الشعوب لا تصدقهم، وتعلم علم اليقين أنهم يكذبون، وتفقد يوما بعد يوم ثقتها بحكامها، يحاول هؤلاء السياسيون خلق واقعهم الخاص البعيد كل البعد عن الحقيقة، فتجدهم يتلطون وراء شعارات ومفاهيم رنانة وحماسية، كـ”الديمقراطية” و”القضية” و”المقاومة” وغيرها.. في حين أن غاية أهدافهم هي البقاء في السلطة ليس أكثر، ولو عنى ذلك قمع الحريات واستلاب الحقوق والارتهان للخارج، وإدخال البلاد في حروب بلا طائل، وفي معارك لم تؤد إلا إلى المزيد من التخلف والتأخر في مجتمعاتنا وابتعادها عن ركب الحضارة والتقدم. لكن، ورغم قتامة المشهد العربي وتعقيد الأوضاع فيه استطاع بعض القادة العرب كسر دائرة الكذب المفرغة هذه، والخروج بأوطانهم وشعوبهم من سياسات “ما بعد الحقيقة” السائدة، إلى مستويات لا بأس بها من الشفافية والاحترام المتبادل، في تجربة أثارت دهشة العالم، خصوصا أن معظم هذه الأنظمة “تقليدية” لم تدّع الديمقراطية يوما!

إذن، في عالم “ما بعد الحقيقة” الذي باتت السياسة، وبتنا كشعوب، نقترب منه اليوم، ربما سيكون الصدق أقرب إلى الميتافيزيقيا وسيظل الكذب، للأسف، هو الحقيقة الوحيدة، فما لم تكن هناك عواقب وخيمة للكذب، فمن غير المرجح أن يتغير أي شيء، وبما أن السياسيين هم من يضع القوانين، فلا أمل كبيرا في أن يحاسبوا أنفسهم. فسحة الأمل الوحيدة هنا يصنعها أفراد يبحثون دائما عن الحقيقة، ويستفيدون من سهولة ووفرة الوصول إلى المعلومات في يومنا هذا، ويحاولون نشر الحقائق ويجيدون إدارة إحباطهم وتحويله دعوة عامة نحو التغيير، بالإضافة إلى سياسيين أكفاء قليلين، يشذون عن قاعدة الكذب، ويغيرون في الواقع ولو بنسب ضئيلة إلا أنها كفيلة بألا ننحدر إلى الدرك الأدنى من الخداع والسلطوية واللاحرية.


شاهد أيضاً

بأية حال تعود الانتخابات في أمريكا!

بقلم: سمير التقي – النهار العربي الشرق اليوم- كل ثلاثة او أربعة عقود، وفي سياق …