الرئيسية / مقالات رأي / جردة الحساب…

جردة الحساب…

بقلم: أسامه الرمضاني – النهار العربي

الشرق اليوم– تساءل العديد من المتابعين الأجانب للشؤون التونسية عن السبب الذي جعل الاعتبارات القانونية والدستورية تغيب عن أولويات التونسيين في ردود فعلهم على قرارات الرئيس قيس سعيّد التي اتخذها في 25 تموز (يوليو) بإعفاء رئيس الحكومة من مهماته وتعليق صلاحيات البرلمان وإلغاء الحصانة البرلمانية لأعضائه.

بقي الجدل العام إلى حد كبير محدوداً حول ما إذا كانت مبادرة رئيس الجمهورية بتفعيل الفصل 80 من الدستور تشكل “انقلابا” أم لا. بل إن الرأي العام في تونس فضّل إعطاء فرصة لسعيّد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بمساندته بأغلبية كبيرة لا مجال للشك فيها للقرارات التي اتخذها في 25 الشهر الماضي.

كانت ردود الفعل في الواقع بمثابة جردة حساب. جاءت بعد أن سئم أغلب الناس تصرفات الطبقة الحاكمة بمؤسساتها وأحزابها وشخصياتها. سئموا إمعانها في المناقشات البيزنطية حول الصلاحيات والغوص في فقه القانون الدستوري والقانون الداخلي للبرلمان في ما تغرق البلاد في الوهن والتفكك وينحدر اقتصادها نحو التداعي ويرتفع عدد مرضى كورونا بما يتجاوز طاقة الأطباء والمستشفيات. يئسوا من قدرة البرلمان أو حتى استعداده للمساعدة على إخراج البلاد من أزماتها المتراكمة. وتنامت القناعة بأن الحكومة مصرّة على قراراتها العشوائية التي تنم عن انعدام كفاءة وقلة وعي بأن صبر الناس قد نفد.

لم تكن هناك أية مفاجأة في تظاهرات الشوارع والدعوات إلى الاحتجاج التي لم تتوقف عبر الشبكات الاجتماعية. ولكن المفاجأة الحقيقية كانت في بطء ردة الفعل رغم علامات الفشل الحكومي واتساع الهوّة بين الشباب والطبقة السياسية… شباب ليس من شيمه الصبر غير المحدود أو الرضى بدور هامشي في انتظار الانتخابات المقبلة. لم يعد بوسع الشباب (وحتى الجمهور الأكبر منهم سناً) أن يلتزموا موقف المشاهد في الوقت الذي كانت فيه النخبة الحاكمة تقدم كل يوم مزيداً من البراهين على أنها عاجزة عن مراجعة نفسها من أجل إنقاذ البلاد أو حتى على تخفيف سرعة الانهيار.

كانت أخطاء الحكم في الأسابيع والأشهر الأخيرة فادحة وصادمة. حكومة نسيت أن تستجلب لقاحات كوفيد في الوقت المناسب واختار بعض أعضائها أن يقضي عطلة الصيف في المنتجعات في حين ينتشر المرض والموت في البلاد. كان هناك كلام من محافظ البنك المركزي عن صدمة شديدة آتية سيحدثها تدحرج الاقتصاد إلى القاع. ومشاهد عبثية في مجلس نواب الشعب بلغت حد العنف الجسدي.

قد لا يفهم المنظّرون الأجانب، الذين علّقوا آمالهم النظرية على رمزية الانتقال الديموقراطي في تونس (الفائز بجائزة نوبل للسلام) ما يحصل في أيقونة “الربيع العربي”. غفل معظمهم عن أن المسارات الشكلانية لم تعد تهم المواطن البسيط بقدر ما كانت تشغله أسباب الأداء الفاشل واستشراء الفوضى والفقر والبطالة ويتملكه الخوف من الغد الآتي على عجل.

المواطن البسيط نفسه أصابه الكلل من صراعات السياسيين على السلطة ومن المبررات الدستورية والقانونية التي يسوّقونها لتبرير ضياع السفينة إذ تتقاذفها الأمواج ويمسك بدفتها أكثر من ربان.

في ردة الفعل الشعبية كان هناك أيضاً رفض لفشل الحكومات في إدارة الأزمات ولتفريطها في هيبة الدولة وسلطتها من خلال سياسات داخلية وخارجية وصلت حد تعريض الأمن القومي للخطر.

في الأثناء، أضاع كثير من الأحزاب خصوصاً تلك التي اضطلعت بالحكم وقادته إلى خيباته، وعلى رأسها “حركة النهضة”، جانباً كبيراً من قواعدها ومن صدقيتها لدى أنصارها قبل غيرهم. ولم تعد الوعود الحزبية ولا سرديات التشكي من ممارسات الحكومات والعهود السابقة تجدي نفعاً بعد عشر سنين من مؤشرات التهاوي. ولم يعد التنميق اللغوي يجدي بعدما اكتشفه الناس من ممارسات المحاصصة والولاءات الحزبية والأيديولوجية على حساب الكفاءة ومصلحة الوطن.

ما يحدث اليوم في تونس هو إلى حد كبير نتيجة فشل الأحزاب الحاكمة في وضع استراتيجيات للتسيير وإدارة الشأن العام خارج نطاق التنافس المحموم على السلطة والجري وراء اقتناص الغنائم.

الغريب لم يكن فقط طغيان الجشع والانتهازية بين أهل السياسة إنما نسيانهم أن المجتمع التونسي قرية صغيرة لا يخفى على أهلها شيء. كل فرد فيها يكاد يمسك معجماً لإعلام السياسة ويملك آلة كاشفة لنواياهم. والجميع يعرف المقدار الحقيقي لحرص الشخصيات الفاعلة على مصلحة البلاد مقابل المنفعة الخاصة أو العكس.

ليس واضحاً إن كانت هذه الأحزاب قادرة اليوم على القيام بمراجعات حقيقية لسياساتها خصوصاً تقييم دور الشخصيات الفاعلة فيها بعد تجربة العشر سنوات الأخيرة. فقد يكون الوقت ملائماً للبعض من الفاعلين الفاشلين، وهم كثيرون، أن ينسحبوا ويبحثوا عن شيء آخر غير بيع السراب وزرع بذور الفشل.

في غياب خريطة طريق لما ينوي قيس سعيّد تحقيقه خلال فترة تطبيقه للأحكام الاستثنائية وما بعدها، ما زالت ملامح ما ستكون عليه الأوضاع خلال الأسابيع والأشهر المقبلة غير واضحة، وإن كان كثيرون يتوقعون أن تتولّد عن الأزمة الحالية مبادرة رئاسية لتنقيح القانون الانتخابي ونظام الحكم (ولو عبر استفتاء) من أجل العبور إلى انتخابات، سابقة لأوانها قد توفر مشهداً سياسياً جديداً أكثر استقراراً.

لا يمكن لصاحب القرار في تونس التغافل في الأثناء عن عامل الوقت الضاغط، وهو عامل محدِّد بخاصة بالنسبة إلى الأزمتين الصحية والاقتصادية وتبعاتهما الاجتماعية.

ويبقى هناك أيضاً العامل الخارجي بكل تناقضاته وتجاذباته، وهو العامل الذي ليس في إمكان تونس أن تتجاهله مهما يكن حرصها على سيادة قرارها وعلى توضيب أوراقها في الداخل أولاً.

وبالفعل فإن العامل الرئيسي الذي قد يشكل التحدي الأكبر يبقى داخلياً ويتعلق بتطلعات الشباب ومواصلة ضغطه من أجل قرارات تستجيب لطموحاته.

أظهر هذا الشباب في تظاهراته واحتجاجاته ما يكفي من الوعي للدفع سلمياً نحو التغيير والإصلاح. وذلك يمكن أن يجعل منه خير حليف لمن يتحمل مسؤولية إدارة شؤون البلاد بشكل رشيد ويقدر على استخلاص العبر من الفرص الضائعة في الماضي القريب.

لم يعد التعايش مع نبض الشارع خياراً في الحياة السياسية التونسية. منذ أكثر من عقدين لم يعد التونسيون مستعدين للقبول بمن يضيّق على حرياتهم أو يمنع احتجاجاتهم. صار محتماً نزولهم إلى الشارع كلما ضاقت بهم السبل أو انسدت آذان الحاكم. ومهما كانت التضييقات فهي لن تمنعهم من التعبير عن رفضهم لأخطاء السلطة إن هي سلكت طريقاً يزيغ مجدداً عن مصالح الأغلبية.

ولكن الأجيال الصاعدة تبقى أيضاً طاقة حية يمكن أن تشكل قاطرة المجهود الوطني نحو إعادة تركيز بنية سياسية سليمة واقتصاد يعمل حتى وإن كانت الطريق إلى ذلك تبدو اليوم طويلة.

شاهد أيضاً

كيسنجر يطارد بلينكن

بقلم: غسان شربل – صحيفة الشرق الأوسط الشرق اليوم- ذهب أنتوني بلينكن إلى جامعة هارفارد. …