الرئيسية / مقالات رأي / الاغتيال السياسي عبر التاريخ

الاغتيال السياسي عبر التاريخ

بقلم: جمال أبو الحسن – المصري اليوم

الشرق اليوم – واقعة غريبة تلك التي صحا عليها العالم في 7 يوليو الجاري. رئيس «هاييتي»، وهي الدولة الأفقر في أمريكا اللاتينية، جرى اغتياله على يدِ عددٍ من المرتزقة الذين تسللوا إلى القصر الرئاسي وأمطروه، وزوجته (التي نجت)، بوابلٍ من الرصاص. مرد العجب في الواقعة أن من نفذ الاغتيال مرتزقة. نحن معتادون على أن عمليات الاغتيال السياسي تجري على يدِ متحمسين مؤمنين إيمانا أعمى بقضية ما، وليس مرتزقة بالأجر. غير أن الواقع هو أن أغلب الاغتيالات السياسية عبر التاريخ قام بها مرتزقة لحساب آخرين. الأشهر تاريخيا كانوا مرتزقة مدينة البندقية الإيطالية!
ظاهرة الاغتيال السياسي قديمةٌ قِدم السياسة ذاتها. من اللحظة التي نظمت فيها المجتمعات نفسها في هيكل سياسي (حاكم ومحكوم) ظهر الاغتيال كوسيلةٍ لإحداث التغيير بالعنف. لو أنك تأملت الأمر لوجدتَ البيولوجيا، وبالتحديد الجانب الذي يخص الأعمار البشرية- لاعبا مهما في السياسة وفي التاريخ. فارقٌ ضخم بين حاكم يموت بعد عامين، وآخر يُعمر خمسين عاما. أعمار البشر، وبخاصة الحكام، تلعب دورا خطيرا- غير مرئي غالبا- في حركة التاريخ. لنتصور أن محمد علي باشا قد وافته المنية عن 50 عاما (وليس عن 80 عاما كما حدث)، ولنتساءل: كم كان تاريخ مصر الحديث سيتغير؟ ولنتصور، في المقابل، أن عمر جمال عبدالناصر قد طال عشرين عاما أخرى عن السن المبكرة التي تُوفي عليها (53 عاما).. ولنتساءل: هل كان لذلك ليُغير مسار الصراع العربي الإسرائيلي؟
لا أحد يعرف الإجابة عن هذه الأسئلة. الأعمار بيدِ الله بطبيعة الحال. والتاريخ الذي لم يحدث هو، في النهاية، افتراض لم يُكتب له التحقق، وبالتالي هو ليس تاريخا على الإطلاق. هو محض «تجربة ذهنية»، أو قفزة في الخيال تُساعدنا على فهم التاريخ الذي وقع بالفعل ورؤيته من زاوية أخرى.
فضلا عن ذلك، فإن من يؤمنون بأن التاريخ ليس صنيعة الأبطال الاستثنائيين من البشر، وإنما محصلة قوى اقتصادية واجتماعية وإنسانية هائلة توجه مساره، وترسم حركته.. من يؤمنون بهذه الفكرة لن يروا في أعمار الأبطال التاريخيين عاملا حاسما في حركته. فهذه الحركة تسير في مسارها بالأبطال أو بدونهم. وإن حدث واختفى الأبطال عن المشهد لسبب أو لآخر، فإن هذه القوى العاتية «تخلق» البطل الذي ينفذ إرادتها، ويُحرك الأحداث في الاتجاه المرسوم. هذا الفهم هو ما دعا رئيس الوزراء البريطاني «ديزرائيلي» إلى التعليق على اغتيال الرئيس الأمريكي أبراهام لنكولن في عام 1865م بأن «الاغتيالات لا تغير التاريخ». المعنى الذي قصده هو أن مسيرة تحرير العبيد في أمريكا ماضية في طريقها، بلنكولن أو بدونه. هذا ما جرى بالفعل على المدى الطويل، ولكن الرئيس الذي خلف «لنكولن» كان مالكا للعبيد، وكرّس نظام الفصل العنصري الذي عانى منه السود في أمريكا لمائة عام تالية. لم يكن لنكولن ليفعل هذا بالتأكيد لو قُدر له أن يُعمر أكثر.
في المقابل، فإن من يُمارس الاغتيال السياسي هو شخصٌ مُقتنع بأن التدخل في البيولوجيا (أعمار البشر) له دورٌ حاسم في تحريك التاريخ. إنه شخصٌ يؤمن بأن التاريخ يصنعه الأبطال، ومن ثمّ يمكن تحويل مساره كليا بإزاحة الأفراد الاستثنائيين- الحكام بالأساس- من الملعب، عبر إنهاء حياتهم قتلا. شعار ستالين الأثير كان: «عندما لا يوجد الشخص.. لا تكون هناك مشكلة»!
والحال أن الاغتيال السياسي كان لصيقا على نحوٍ خاص بالكثير من نظم الحكم. السببُ الغالب هو غياب آلية انتقال السلطة. كان هذا واضحا على نحوٍ خاص في الإمبراطورية الرومانية التي مات أغلب أباطرتها ميتة غير طبيعية. أيضا: نحو 60 من مائة إمبراطور بيزنطي ماتوا مقتولين. الأمر ذاته يصدق على دولة المماليك التى كاد الاغتيال السياسي أن يكون الطريق «الطبيعي» للتداول على السلطة فيها.
وللعالم الإسلامي نصيبٌ غير قليل من جريمة الاغتيال السياسي. ثلاثة من الخلفاء الراشدين لقوا ربهم مقتولين، وكذا الكثير من خلفاء الدولة العباسية. أما الجماعة الأكثر شهرة في مجال الاغتيال السياسي، ربما عبر التاريخ، فقط كانت الفرقة المعروفة في التاريخ الإسلامى بالحشاشين (وهم فرع من الشيعة الإسماعيلية) والتي احترفت الاغتيال السياسي بين القرنين 11 و13. كانت الجماعة مشهورة بفدائييها الذين لا يهابون الموت، وانتشرت في الشام وإيران. وتمكنت من اغتيال الوزير السلجوقي نظام الملك، وكونراد حاكم القدس، وخليفتين عباسيين، فضلا عن محاولات متكررة لاغتيال صلاح الدين الأيوبي، كان من أثرها أن صار القائد الإسلامي حريصا على النوم في برجٍ خشبى لا يصعد إليه سوى الأشخاص الذين يعرفهم!
ومن المدهش حقا متابعة ما أفضت إليه الكثير من الاغتيالات السياسية من نتائج عكسية. الذين تآمروا على «يوليوس قيصر» عام 49 ق. م كانوا يرومون إنقاذ الجمهورية من نزوات حكم الفرد والاستبداد، وإذا بهذا الاغتيال يضع نقطة النهاية لعصر الجمهورية برمته، بل وينتهي الحال بكافة مدبري المؤامرة مطاردين ومقتولين. الأمر ذاته ينطبق على الجماعة الثورية التي اغتالت قيصر روسيا «ألكسندر الثاني» بواسطة قنبلة في 1881. كان القيصر الروسي صاحب ميولٍ إصلاحية وقام بتحرير العبيد في ستينيات القرن التاسع عشر، وإذا بابنه «ألكسندر الثالث» يتراجع عن الإصلاح ويؤسس لقمع واستبداد!
وفي التاريخ بابٌ كذلك لعمليات الاغتيال الفاشلة، وبعضها له تأثير لا يقل عن تلك التي نجحت. من أشهر العمليات الفاشلة بالطبع تلك التي تعرض لها الزعيم النازي «هتلر» في عام 1939، أي قبل بدء الحرب مع فرنسا مباشرة. تمت العملية عبر زرع قنبلة في المكان الذي يخطب فيه هتلر وسط أنصاره بشكل معتاد في ميونخ، ولكنه في هذا اليوم بالذات غادر مبكراً ثلث الساعة! وفي مصر، كانت العملية الفاشلة لاغتيال جمال عبد الناصر في المنشية عام 1954 نقطة النهاية في علاقة ضباط يوليو بالإخوان المسلمين، وفاتحة لمرحلة جديدة من ضرب الإخوان المسلمين بلا هوادة.
انتشار ثقافة الاغتيال مؤشر أكيد على عدم الاستقرار، وغياب آليات تسوية الصراع السياسي. أغلب الظن أن الاغتيال لا يُحقق الهدف المأمول لمن يرتكبه، ولكنه- وبسبب تركيبة المجتمعات الإنسانية التي مازالت إلى اليوم تعتمد على القيادة- يُمكن بالفعل أن يحرف مسار التاريخ.

شاهد أيضاً

ماذا حصل دبلوماسيّاً حتى تدحرج الوضع مجدداً على الجبهة اللبنانيّة – الإسرائيليّة؟

بقلم: فارس خشان- النهار العربيالشرق اليوم– بين 15 آذار (مارس) الجاري و23 منه، انخفض مستوى …