الرئيسية / مقالات رأي / زلزال اجتياح الكابيتول وهزّاته الارتدادية المستمرة

زلزال اجتياح الكابيتول وهزّاته الارتدادية المستمرة

بقلم: هشام ملحم – النهار العربي

الشرق اليوم- فور اجتياح مبنى الكابيتول في السادس من كانون الثاني (يناير) الماضي من قبل مئات المتطرفين والعنصريين المؤيدين للرئيس السابق دونالد ترامب بهدف منع التصديق على انتخاب الرئيس جوزف بايدن، في أخطر تحدٍ للديموقراطية الأميركية منذ الحرب الأهلية قبل حوالى قرن ونصف وقرن، سارع قادة الحزب الجمهوري الى تأنيب ترامب ولومه على تحريض أنصاره على اقتحام المبنى الرئيسي للكونغرس، المؤسسة التي انتخبوا أعضاءً فيها. آنذاك، وقبل أن تجف دماء القتلى والمجروحين، وفي أعقاب هروب المشرعين من المتطرفين الذين كانوا يطالبون برأس نائب الرئيس مايك بنس، ورئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي وغيرهما من المشرعين، برز إجماع آني حول فظاعة الحدث، وضرورة منع حدوثه مرة أخرى، وخوف واسع بشأن ما اعتبره مراقبون كثر هشاشة الديموقراطية الأميركية.

في هذا السياق القى رئيس الأكثرية الجمهورية آنذاك السناتور ميتش ماكونال خطاباً في الكونغرس وجه فيه نقداً لاذعاً لترامب وحمّله شخصياً مسؤولية الاجتياح. وأعقبه زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس النواب كيفن ماكارثي، الذي انتقد ترامب أيضاً، وإن بحدة أقل من ماكونال. وحتى السناتور ليندزي غراهام المعروف بتزلفه العلني لترامب، قال في لحظة نادرة إنه قطع علاقته بترامب.

ولكن هذه المواقف الجمهورية “الشجاعة”، التي التقت مع مواقف القيادات الديموقراطية في مجلسي الكونغرس، سرعان ما تبخرت في الأيام والأسابيع التي أعقبت الاجتياح. حدث ذلك حين أدرك هؤلاء أن الاجتياح الذي هز البلاد، لم يزعزع ابداً من نفوذ ترامب القوي في الحزب الجمهوري، وأظهر أكثر من أي وقت مضى مدى التزام القاعدة الجمهورية بالرئيس السابق، وعمق إيمانها بـ”الكذبة الكبرى” التي روجها ترامب فور خسارته للانتخابات في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، والتي تدّعي أن ترامب هو الفائز الحقيقي بالانتخابات، وأن الديموقراطيين المدعومين من وسائل الاعلام “سرقوا” البيت الأبيض منه.

وفوجئ الأميركيون حين سمعوا أن السناتور ماكونال قد قال انه سيصوت لترامب، اذا ترشح في عام 2024. كيفن ماكارثي، بدأ يتراجع عن انتقاده لترامب، ولحق ذلك بالسفر الى المنفى الطوعي لترامب في منتجع مارا لاغو في فلوريدا ليقدم البيعة من جديد ويتصور مع الرئيس السابق بعد أن ارتدى ابتسامة واسعة على وجهه الكبير. السناتور غراهام تخطى استياءه المزيف من ترامب خلال يوم أو يومين. ومع مرور كل يوم، ومع استخدام ترامب الفعّال لسوطه، أدرك الجميع أن الرئيس السابق قد أعاد الأكثرية الساحقة من منتقديه الى حظيرته.

وعلى الرغم من أن التحقيقات الأولية لأجهزة الشرطة قد أبرزت للعلن مدى خطورة الاجتياح، واقتراب المتطرفين بالفعل من قلب نتائج الانتخابات، بنى ترامب والجمهوريون جداراً قوياً في وجه أي تحقيق مستقل في الكونغرس وفق انتداب واسع يعطي المحققين صلاحيات كبيرة باستدعاء أي شاهد يعتقدون بصرورة الاستماع اليه، بمن في ذلك الرئيس السابق ذاته.

الأكثرية الديموقراطية في مجلس النواب صوتت من أجل إنشاء لجنة مشتركة من الاختصاصيين يعينهم الحزبين، وتكون مماثلة بصلاحياتها للجنة التي حققت بهجمات أيلول (سبتمبر) 2001 الإرهابية، لإجراء تحقيق شامل بالظروف والتداعيات التي أدت إلى الاجتياح، وما هي مضاعفاته وما يمكن فعله لتفادي حدوث أمر مماثل في المستقبل. ولكن الجمهوريين في مجلس الشيوخ رفضوا هذا الاقتراح في نهاية شهر أيار (مايو) الماضي، لأن تشكيل مثل هذه اللجنة يتطلب ستين صوتاً، ما يعني أن الأكثرية الديموقراطية البسيطة لا تكفي. الجمهوريون، بقيادة السناتور ماكونال ادعوا أن التحقيقات التي تجريها وزارة العدل كافية.

وخلال الأشهر الستة التي أعقبت الاجتياح، واجه الديموقراطيون، إضافة الى معارضة الجمهوريين لأي تحقيق جدي بالاجتياح، بروز سردية جديدة في أوساط الجمهوريين ترفض حتى اعتبار الاجتياح، اجتياحاً. وبدأ الأميركيون يكتشفون أن عدداً متزايداً من المشرعين الجمهوريين يقومون بترديد أكاذيب ترامب الجديدة من أن ما حدث في السادس من كانون الثاني (يناير) الماضي هو تعبير سلمي عن “حب” الجمهوريين لترامب وللدستور الأميركي. أحد المشرعين قال إن المتطرفين تصرفوا في شكل سلمي وكأنهم سياح.

إصرار الديموقراطيين على إجراء تحقيق شامل بالاجتياح، دفع برئيسة مجلس النواب بيلوسي للدعوة الى تشكيل لجنة من أعضاء الحزبين في المجلس للتحقيق. الجمهوريون عارضوا في البداية ولكن نظراً للأكثرية الديموقراطية لم يستطيعوا عرقلة الاقتراح، وقبلوا بتشكيل اللجنة على مضض. واختارت بيلوسي عدداً من المشرعين الديموقراطيين للجنة، كما اختارت النائبة الجمهورية اليزابيث تشيني المعروفة بمواقفها النقدية لترامب والتي وافقت على محاكمته. وبعد تردد وشكاوى من زعيم الأقلية الجمهورية كيفن ماكارثي، وافق على اختيار خمسة أعضاء جمهوريين للجنة، من بينهم النائبان جيم جوردان، وجيم بانكس وهما من غلاة المدافعين عن ترامب، ومن أصخب الأعضاء الجمهوريين وأكثرهم فظاظة وتطرفاً. وكان النائبان من أبرز معارضي التصديق على انتخاب جو بايدن الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة، والأهم من ذلك من أشرس المعارضين لأي تحقيق في اجتياح الكابيتول.

يوم أمس الأربعاء وفي خطوة عكست عمق الاستقطابات الحزبية في الكونغرس والتي لا مثيل لها في العقود الأخيرة، وما يراه مراقبون كثر العجز المتزايد للكونغرس، وبخاصة في مجلس النواب في القيام بواجباته التشريعية، قررت رئيسة المجلس بيلوسي رفض عضوية النائبين جوردان وبانكس في لجنة التحقيق. وقالت بيلوسي إن مواقف النائبين منذ الاجتياح تبيّن انهما غير مؤهلين للمشاركة في أي تحقيق جدي. وكان النائب بانكس قد قال إن لجنة التحقيق قد شكلت “لإلحاق الأذى بالمحافظين ولتبرير الأجندة اليسارية الأوتوقراطية” للحزب الديموقراطي. كما أن النائب جوردان وصف اللجنة التي كان يفترض أن يكون عضواً فيها أنها تمثل “محاكمة ثالثة” للرئيس ترامب.

رئيسة مجلس النواب بيلوسي بررت خطوتها بالقول: “الطبيعة غير الاعتيادية لما حدث في السادس من كانون الثاني (يناير) 2021، تتطلب هذا القرار غير الاعتيادي”. وسارع زعيم الأقلية الجمهورية كيفن ماكارثي الى عقد مؤتمر صحافي غاضب دان فيه قرار بيلوسي وقال إن الجمهوريين لن يشاركوا في لجنة التحقيق، وإنهم سيشكلون لجنة موازية. وحمّل ماكارثي رئيسة المجلس بيلوسي مسؤولية العنف والفوضى خلال الاجتياح، لأنها، حسب ادعاءاته قد فشلت في توفير الحماية للكونغرس في ضوء التقارير التي حذرت من التظاهرات في الأيام التي سبقت الاجتياح. مسؤولية حماية مباني الكونغرس هي من صلاحيات قادة جهازي الشرطة في المجلسين، وهم قادة كان قد عينهم الجمهوريون قبل انتخاب بيلوسي كرئيسة لمجلس النواب.

هذا الخلاف هو آخر مؤشر في أن الجسور بين قادة الحزبين، خصوصاً في مجلس النواب قد حُرقت، وأن القادة الجمهوريين غير معنيين بالتعاون مع الديموقراطيين لتمرير أي مشاريع قوانين يريد أن يقرها الرئيس بايدن. وعلى الرغم من أن هناك 18 شهراً تفصل البلاد عن الانتخابات النصفية في 2022، إلا أن الأجواء السائدة في الكونغرس توحي بأن الحزبين يحضران لهذه الانتخابات وكأنها ستجري بعد شهر واحد.

ويوم أمس الأربعاء، وضع الجمهوريون في مجلس الشيوخ عقبة جديدة أمام الخطة الطموحة للرئيس بايدن لإعادة بناء البنية التحتية في البلاد والتي تصل كلفتها الى تريليون و200 مليار دولار، كان قد وافق عليها بعض المشرعين الجمهوريين. هذا التصويت الأولي لا يعني القضاء على الخطة، ولكنه مؤشر آخر حول صعوبة تعاون الحزبين حتى في مجلس الشيوخ الذي يفترض أن تكون مداولاته أقل تشنجاً من مداولات مجلس النواب. بعد ستة أشهر من الاجتياح، يمكن القول إن الذين قاموا بالاجتياح نجحوا الى حد كبير في تحقيق هدفهم الأصلي، أي تعطيل المؤسسة التشريعية عن القيام بواجباتها الدستورية. الشلل الراهن الذي لحق بالعملية التشريعية، وبخاصة في مجلس النواب، واستعداد الجمهوريين لاستخدام سياسة الأرض المحروقة لتعطيل إقرار خطط بايدن، يبيّن عمق وخطورة التحدي الذي لا تزال تواجهه الديموقراطية الأميركية.

هذه العقبات والخلافات العميقة بين الحزبين، والتي تأتي قبل عطلة شهر آب (أغسطس) المقبل، سوف تزيد من الضغوط على إدارة الرئيس بايدن للتعجيل بتمرير برامجه الطموحة خلال الأشهر المتبقية من السنة الحالية، لأن المشرعين الجمهوريين، ومعهم أيضاً بعض المشرعين الديموقراطيين “المعتدلين” سوف يبدأون عملياً سباقهم الانتخابي في بداية 2022. وسوف يكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل على قادة الكونغرس الديموقراطيين العمل حتى مع أقلية من المشرعين الجمهوريين في ظل الأجواء المشحونة الراهنة. مشرعون من الحزبين يقولون علناً إنهم يرفضون التعاون مع مشرعي الحزب الآخر.

مساء أمس الأربعاء أعرب الرئيس بايدن عن ثقته بعودة مجلس الشيوخ للنظر من جديد بالخطة على الرغم من النكسة الأخيرة، وإقرارها. تفاؤل بايدن بشأن الخطة قد يكون في محلّه، بسبب التأييد الشعبي لها، ولكن مع مرور كل يوم، تبدو كلمات ورغبات بايدن المتكررة حول إيمانه بأهمية تعاون الحزبين، وضرورة إعادة بناء الوحدة الوطنية، والتي تواجهها جدران الجمهوريين العالية، وكأنها كلمات في صحراء شاسعة لا يسمعها إلا قائلها.

شاهد أيضاً

الأمل المستحيل لإسرائيل

بقلم: عاطف الغمري – صحيفة الخليج الشرق اليوم- عندما يطرح مركز بحوث أمريكي مؤيد دائماً …