الرئيسية / مقالات رأي / أمريكا والحياة في مرحلة ما بعد كوفيد

أمريكا والحياة في مرحلة ما بعد كوفيد

بقلم: بول كروجمان – صحية الاتحاد

الشرق اليوم- في ربيع 2020، دخل الاقتصادُ الأمريكي في ما وصفتُه آنذاك بـ”الغيبوبة الاصطناعية” حين أغلقنا معظم الاقتصاد في محاولة للحد من انتشار فيروس كورونا. والآن وبالنظر إلى تلك الفترة، يتبين أن ذلك كان سياسة حكيمة كان ينبغي اتباعها بشكل أشمل بكثير لأنه، على كل حال، بإبطائنا انتشار الفيروس، لم نتفادَ خلق ضغط كبير على نظام الرعاية الصحية فحسب، وإنما كسبنا أيضاً وقتاً من أجل تطوير وتوزيع اللقاحات التي مكّنت عشرات الملايين من الأميركيين من تجنب الخطر، والذين كانوا سيصابون بالفيروس لو لم تكن ثمة إغلاقات.

غير أنه كانت هناك كلفة أولية ضخمة من حيث انخفاض التوظيف، وبدرجة أقل، من حيث انخفاض الناتج المحلي الإجمالي. وقد توقع العديد من المحللين تعافياً بطيئاً في أحسن الأحوال – مماثلاً للتعافي البطيء من أزمة 2008 المالية، ولكن يبدو أننا نتعافى بشكل سريع، مثلما توقع البعض منا.

ولكن هل سيكون شكل اقتصاد ما بعد كوفيد مثل شكل اقتصاد ما قبل كوفيد؟ أغلب الظن لا، وذلك لأسباب بيّنها ألكسندر هاميلتون (واحد من الآباء المؤسسين للولايات المتحدة) في 1791.

فـ”تقرير عن موضوع المصنوعات” الذي أصدره يُعتبر على نطاق واسع أولَ بيان مهم لما أصبح يعرف لاحقاً بعقيدة “الصناعة الوليدة”. فآنذاك، كانت الولايات المتحدة الفتية دولةً زراعيةً في معظمها، وتعتمد على الواردات –من بريطانيا بشكل رئيسي – لتلبية احتياجاتها من السلع المصنعة.

غير أن هاميلتون حاجج بأن الصناعة الأمريكية ستكون قادرة على منافسة الصناعة البريطانية إن مُنح المصنّعون المحليون فرصة لاكتساب خبرة، وأنه حينما يرى الأميركيون أن الصناعة يمكن أن تكون مربحة، وحينما تتاح لهم الفرصة لاكتساب الخبرة، فإن قاعدة صناعية أمريكية ستتشكل وستصبح مكتفية ذاتياً.

ولهذا، دعا هاميلتون إلى فرض رسوم جمركية مؤقتة، من بين أشياء أخرى، لحماية الصناعة الأمريكية ومنحها الوقت لتصبح ذات تنافسية. ثم أمضى الاقتصاديون الـ220 عاماً التالية في الحجاج حول ما إن كانت حماية الصناعة الوليدة تمثّل سياسةً جيدةً في الواقع ومتى. ولكن من الواضح أن فكرة أن الحماية المؤقتة لقطاع من القطاعات تجعله أحياناً ذا تنافسية على المدى الطويل تنطوي على كثير من الأهمية والوجاهة.

ما علاقة هذا بكوفيد- 19؟ الواقع أن الوباء أنتج بعض الأشكال المتطرفة لحماية صناعة وليدة بحكم الواقع، ما أرغم ملايين الأمريكيين على العمل بطريقة مختلفة عن الطريقة التي كانوا يعملون بها من قبل. والكثير من هذه التغيرات من المحتمل أن تبقى، وإن لم يكن كلها، وحتى مع اللقاحات، فإن الكثير من الأشخاص والشركات لن يعودوا إلى الطريقة التي كانت عليها الأشياء من قبل.

والمثال البديهي هنا بالطبع هو العمل عن بُعد. فالعمال الأمريكيون الذين يعملون في وظائف مكتبية تقليدية لم يتأثروا بالوباء قدر تأثر عمال المطاعم، مثلاً، ويبدو أنهم عادوا في معظمهم إلى الوضع الطبيعي، وإن ليس بشكل كامل.

ولكنهم لم يعودوا إلى مكاتبهم. وإذا كانت معدلات شغل المكاتب قد ارتفعت قليلاً، فإنها ما زالت دون المستوى الطبيعي بكثير في المدن الكبرى، ربما بسبب انتشار العمل عن بُعد.

ولا شك أن الكثير من العمال سيعودون إلى المكتب في نهاية المطاف. ولكن العام ونصف العام الماضيين أظهرا أن الكثير مما كان يحدث في قاعات المؤتمرات يمكن أن يتم على الشاشات بدلاً من ذلك، من دون خسارة كبيرة في التفاعل الفعلي ومع توفير كبير في وقت التنقل والجهد الشخصي.

ثم إننا أصبحنا جميعاً بالطبع أحسن في استخدام أدوات العمل عن بعد – تماماً على غرار صناعيي هاميلتون، الذي توقع أن يصبحوا أحسن في الصناعة بعد خبرة بضع سنوات. وإذا كانت عبارة “ما زال زر الصوت عندك مغلقاً” ما زالت شائعة، فإنها في تجربتي الشخصية، على كل حال، ليست أكثر شيوعاً من “عفواً، أيمكنك رفع صوتك قليلاً؟” في اللقاءات المباشرة.

ثم إن العمل عن بُعد لم يكن الشيء الوحيد الذي تعلّم كثير من الأمريكيين فعله خلال الوباء. إذ هناك آخرون كثر، ربما يعدّون بالملايين، تعلّموا القيام بشيء مختلف، ألا وهو: عدم العمل مطلقاً.

الكثيرون من هؤلاء العمال هم من كبار السن الذين كانوا يخططون للتقاعد قريباً على كل حال، والذين اكتشفوا الآن أن التقاعد تجربة أفضل، وأن قيمة المال الإضافي الذي يمكن أن يجنوه من خلال العمل فترة أطول أقلّ من حيث جودة الحياة مما كانوا يعتقدون. وبالتالي، فإن الوباء لم يوفّر حماية الصناعة الوليدة للعمل عن بعد فحسب، وإنما وفّر أيضاً حماية صناعة وليدة لعدم العمل بين بعض المجموعات.

كل هذا لا بأس به! فهدف الاقتصاد، على كل حال، ليس تعظيم الناتج المحلي الإجمالي في حد ذاته، وإنما جعل حيواتنا أفضل. والواقع أن الوقت والجهد اللذين سنوفّرهما عندما يشتغل الناس عن بعد عوضاً عن تجشم عناء التنقل للذهاب من المكتب وإليه لا يحتسب ضمن الناتج المحلي الإجمالي، ولكنهما يمثّلان مكسباً حقيقياً. ورغم أن زيادة الرضا الحياتي الذي يحصل عليه بعض الناس من خلال التقاعد مبكراً وقضاء وقت أطول في البيت يكون على حساب الناتج المحلي الإجمالي في الواقع، إلا أنه يجعل الأمة أغنى في الأشياء المهمة.

وعليه، فإن شكل الاقتصاد لمرحلة ما بعد كوفيد سيكون مختلفاً عما كان لدينا من قبل. وعلى الأرجح، ستكون هناك تخمة في المعروض من فضاءات المكاتب، كما أن التوظيف الإجمالي سيكون، على الأرجح، أقل قليلاً مما كان سيكون عليه في ظروف مغايرة، بسبب التقاعد المبكر. غير أن هذه التغيرات ستكون أشياء جيدة عموماً. لقد كان الوباء قاتلاً ومكلّفاً، ولكنه منحنا بالمقابل فرصة للتفكير والعمل والعيش بشكل مختلف!

شاهد أيضاً

إسرائيل تختار الصفقة بدلاً من الرد الاستعراضي

بقلم: علي حمادة – صحيفة النهار العربي الشرق اليوم– تجنبت ايران رداً إسرائيلياً استعراضياً يفرغ …