الرئيسية / مقالات رأي / حول “الماسونية” ومؤامراتها

حول “الماسونية” ومؤامراتها

بقلم: حسن منيمنة – الحرة

الشرق اليوم- يكاد أن يصبح من المعتاد والمتوقع، في الأوساط الفكرية الحرة، أن يقترن ذكر “الماسونية” بتسفيه روايات المؤامرات التي يروّجها من يربط هذه الحركة بـ”الصهيونية العالمية” وعائلة روتشيلد، ثم بحكومة العالم الخفية، وربما كذلك بالدجال والدابة وملاحم والفتن. ليس هذا هو الغرض هنا. بل، ربما بما يشفي غليل البعض، البداية ها هنا هي بالإقرار بأن “الماسونية” قد خاضت بالفعل “مؤامرة” أو “مؤامرات”، نجحت بها أم فشلت. ومن الصائب، بل من الواجب، النظر في الوقائع المرتبطة بهذه الحوادث.

على أن الخطأ الأول المرتكب بحق “الماسونية” هو افتراض أحاديتها ووحدتها وتواصل نشاطها وانضواء هذا النشاط في تصوّر واحد هادف. ليست هذه المغالطة وليدة العدم، بما أن “الماسونية”، والتي لا خلاف بأن طابع السرّية ملاصق بها، وفق ما تشير إليه وثائقها المسرّبة تصبو إلى “نظام عالمي جديد”، قائم على “الحرية والمساواة والأخوة”. أليس منطقياً، حين تكون شهادة المتهم مطابقة لمضمون التهمة، الحكم بثبوت هذه التهمة؟

ثم أليس شعار الجمهورية الفرنسية، منذ الثورة الفرنسية الكبرى، هو نفسه شعار الماسونية؟ وأليست الولايات المتحدة، منذ الثورة التي منحتها الاستقلال من بريطانيا متخمة بالشعارات والرموز الماسونية؟ يكفي النظر إلى العملة الأميركية من فئة الدولار الواحد، والذي يطفح ظهرها بالرسوم والكلمات الماسونية.

الجواب على هذه الأسئلة هو بالنفي. الماسونية ليست على هذه الأهمية، ودورها لم يكن يوماً موحداً أو حاسماً. ثمة تماهي على مستوى حالات الحضور والتأثير الماسوني، ولكنها لا ترتقي إلى وحدة حال وهدف وتخطيط وتنفيذ، إلا لمن يرضى بالاختزال الذي يقتطع الغالب الناقض ويحتفظ بالقليل المؤيد.

ثمة مفارقة غالباً ما يهملها الاختزال. المفترض بالماسونية أن تكون حركة سرية، متحالفة مع غيرها من قوى الشر. غير أنه يمكن لمن يتجوّل في المدن والبلدات الأميركية أن يلحظ الصروح والهياكل الماسونية الضخمة في العديد منها، والكثير من هذه المباني تستوحي العمارة المصرية القديمة، أو اليونانية والرومانية، أو حتى الإسلامية، وبإسهاب. إذ أن إحدى أنشط الجمعيات “الماسونية” في الولايات المتحدة وأبرزها، والتي يختصر اسمها بـ “شراينرز” (نسبة إلى “الحرم المكي الشريف”)، تستوعب كافة الرموز والأسماء الإسلامية، في ملابسها الطقسية وصروحها وفروعها، وفي مستشفياتها المعنية بمعالجة الأطفال من ذوي الحاجات الخاصة. بالإضافة إلى حالة لافتة، وهي اعتماد جمعية “نجمة الشرق” الماسونية للنجمة الدرزية، بالتطابق الشكلي الجلي، وبالألوان المشيرة إلى الحدود الخمسة، كشعار رئيسي لها. ففي وسط العاصمة الأميركية مثلاً، هيكل مهيب قد يظن من يمرّ في جواره أنه دليل استقرار “رسائل الحكمة” في العالم الجديد، فيما هو مبنى تابع لـ “نجمة الشرق” الخاصة بالنساء الماسونيات.

وبالإضافة إلى ذلك فأنه من المعتاد، عند مدخل كل بلدة أميركية في طول البلاد وعرضها، إلى جانب المعلمة التي تحمل اسم البلدة، معالم مختلفة الأحجام، كل تفيد عن جمعية “ماسونية” مرتبطة مباشرة بالمحافل الكبيرة أو شقيقة لها.

الماسونية في الولايات المتحدة لا تتحرك بالخفاء. وهي مختلفة تماماً عن التي يتصورها أصحاب توقعات المؤامرة. مساعي الربط بين الماسونية وحكومة العالم الخفية غالباً ما تتجاهل هذا الواقع الأميركي الصادح أو ربما تجهله. ولكنه ذو أهمية كبيرة لتوضيح ماهية الماسونية، ودورها في الأمس واليوم والغد.

أدبيات الماسونية تعود بها إلى معبد سليمان، في تأطير محض خيالي قصصي لأصل وفروع خارج السجل الوقائعي بالكامل. وقائعياً، الماسونية ابتدأت في اسكتلندا عند نهاية القرن السابع عشر، كجمعية من “العلمانيين” (أي غير كهنوتية) موازية للكنيسة، دون زعم انقطاع أو خروج عن الإجماع المستقر حينئذ حول مرجعية الكتاب المقدس، ولكن للحد من التفرّد الكنسي في السلطة المعنوية على المجتمع. ثم انتقلت إلى انكلترا وفرنسا، حيث كانت تتشكل أفكار “الأنوار” كبديل للتأطير الديني لفهم الوجود والواقع والنفس.

اللقاء مع “الأنوار” دفع المحافل الماسونية المتشكلة لأن ترتقي بطموحاتها الإصلاحية من الموضعي الخاص إلى العالمي العام، وهيأ لأن تتأسس في ألمانيا وإيطاليا جمعيات تحاكيها في منهجيتها التنظيمية وإطارها الفكري. في ألمانيا، نشأت جمعية “المتنورين” (الإيلوميناتي)، والتي لا يزال لها في الموروث القصصي المعادي للماسونية اليوم المكان المتعاظم. في إيطاليا، نشطت جمعية “الفحميين” (الكاربوناري) (ربما اسمها الأقل جاذبية نجّاها من تكون في صدر المزاعم المعاصرة). وغيرها.

اللقاء بين طروحات “الأنوار” والتحدي الذي تشكله لكل من الملكية والكهنوت، وبين “الماسونية” في فرنسا، كان لقاء بين الفاعل والوسيلة. أي أن العديد من دعاة الأنوار وجدوا في “الماسونية” صيغة عملية للتنظيم والعمل، في مواجهة القدرات المتحققة الواسعة للدولة والكنيسة. ونشاطهم، الذي أفضى ثورة، ثم ثورات بعد انتكاسات، وصولاً إلى استقرار الجمهورية في فرنسا، لم يكن قط مقتصراً على المحافل الماسونية، ولكنه استفاد من هذه المحافل، ومن سريّتها وانتشارها، لمواجهة الكهنوت تحديداً على مدى القرن التاسع عشر. وخلال هذا القرن، تعمقّت الماسونية الفرنسية بعدائها للكنيسة، فاحتضنت خصوم هذه الأخيرة الفكريين كما التنظيميين.

هل اجتمع في الماسونية من يتمنى دحض الإيمان الكنسي، ويسعى إلى استبداله بعبادات تستعيد الموروث السابق للمسيحية؟ إلى حد ما، لا يمكن الاستخفاف به ولكن لا يجوز المبالغة بتصوير قدراته، متراوحاً بين الجد والهزل. الجد بالحديث عن اختراق الكنيسة والإكثار من الكهنة المتنورين في داخلها، وهو واقع كان يتحقق تلقائياً نتيجة التطور الاجتماعي الفكري بغضّ النظر عن الرغبات الماسونية، والهزل ربما في طرح طقوس استفزازية، من وحي الإيمان المتخيل السابق للمسيحية.

هل السرية والمسعى الثوري يبرران وصف الدور الماسوني بالمؤامرة؟ ربما، ولكن دون افتراض أن هذا الدور يختزل الزخم الثوري، السابق له والمتجاوز له بأشواط.

أما من وجهة النظر المقابلة، وهي الرافضة للثورة وللجمهورية وللعلمانية، فالتصور الأسهل، للاستيعاب والتسويق، كان إنكار الدوافع الذاتية لمسعى إسقاط نظام الملكية المدعوم كنسياً، وتصوير الواقع على أنه “يد خفية” (ماسونية، يهودية، شيطانية، على ما يتوافق مع الظروف التاريخية المختلفة) تتلاعب بمصير المؤمن ووطنه. بل يرتاح الجانب المعادي للماسونية إلى استدعاء بعض نصوص، خطّها أصحاب طموحات فائضة وأقدار متواضعة من النفوذ في واقع الحال، حول اختراق الكنيسة وتفتيتها من الداخل، ليصبح المجمع الفاتيكاني الثاني، المنعقد في ستينات القرن العشرين، ذروة المؤامرة الماسونية للقضاء على المسيحية التقليدية واستبدالها بصيغة مائعة تهدّم الإيمان القويم.

هي حرب ثقافية، لا تزال نارها مستعرّة في فرنسا وسائر الغرب إلى اليوم. وخلافاً للاطمئنان السائد إلى أمس قريب، والذي أصرّ على اعتبار النهوض المتكرر للطرح المحافظ الانطوائي مجرد مخلفات محكومة بالزوال، فإن القدرة التعبوية للطرف الرافض للعالمية (والعلمانية والجمهورية) قد ارتفعت، ولا سيما من خلال إدراج “الاستعمار المضاد” أو “الغزو الإسلامي” كنتيجة مباشرة للتوجهات التقدمية المنفتحة، وصولاً إلى نجاحات موضعية في دول غربية عديدة تبشّر، من وجهة نظر من يحبذها، بقلب موازين القوى جدياً في المراحل المقبلة.

على أن حال الماسونية في الشرق كان مختلفاً عن أوضاعها في بلاد نشأتها الأولى. فالاستعمار، والذي أتاح لأوروبا السيطرة على معظم العالم في القرن التاسع عشر، جاء ملتبساً في تأطيره، فيما يتعدى مصلحة المستعمِر المادية المباشرة، بين الجهود التبشيرية المسيحية و “العبء” الملقى على “الرجل الأبيض” لنشر الحضارة. “عالمية” الماسونية، بل استسقائها الأصول من “الشرق”، جعل منها الصيغة الأكثر لطفاً للتلقي في المجتمع “الشرقي”. إذ هي، في الشرق كما في الغرب تسعى إلى استنهاض ما هو غائب للتوّ لدى العموم من قيم بناءة.

أي أن الماسونية، من منظور الشرق في القرن التاسع عشر، كانت الأقرب إلى القيم العالمية الإنسانية المستجدة في التعبير والتي تضع جميع البشر على قدر متكافئ من حيث الحقوق. ليس غريباً بالتالي أن ينضم إليها الإمام المجاهد عبد القادر الجزائري، في إدراك لواقع موازين القوى لغير صالح الشرق، أو الإمام المصلح جمال الدين الأفغاني وصحبه في مسعى إنقاذ الدولة الإسلامية الجامعة، أو أن تتأسس المحافل الماسونية على مدى مصر والمشرق. لا هي في الإطار المشرقي تتعارض مع الأديان، ولا هي وسيلة اختراق غربية للمجتمعات الشرقية. هي أداة وحسب، اعتمدتها النخبة في هذه المجتمعات في محاولة لمخاطبة أفضل للغربي المتغلب، وتنظيم أنجع للشرقي المغلوب.

أما في المستعرات البريطانية في العالم الجديد، والتي كانت تتحرك عند بداياتها في وهج الطروحات الفكرية الصاعدة من فرنسا وإنكلترا، فإن “الماسونية” لم تكن أداة للتصدي للكهنوت، ذلك أنه لم يكن ثمة كهنوت ذو جبروت، بل قساوسة ورجال دين، إنجيليين في معظمهم، من أصحاب التأثير المعنوي الموضعي المتواضع لا السلطة الإلهية القاضية، بحكم عقيدتهم ونتيجة لامركزية انتشار المذاهب على مدى البلاد.

الماسونية الأميركية لم تنشأ في التضاد مع الكنيسة، بل ترعرعت إلى جوارها، كتعبير عن حالة اجتماعية واقتصادية سائرة إلى التحسن. وإذا كانت الكنيسة الواحدة، أو الكنائس المتعددة، هي الظاهرة المرئية اللازمة في كل بلدة، ودونها البلدة ليست بلدة ابتداء، فإن الهيكل الماسوني الواحد، أو الهياكل الماسونية المتعددة، هي دليل الرخاء والازدهار لكل من هذه البلدات. هي النوادي الاجتماعية للخاصة، وخاصة الخاصة، ومنها تكون المبرات والأعمال الخيرية.

هل تعاون الماسونيون الأميركيون لمضاعفة نفوذهم؟ طبعاً وبالتأكيد، شأنهم شأن أية مجموعة أو جمعية أو جماعة، على أن الهوية الماسونية لم تكن الوحيدة بما يفترض تقدّمها بالنسبة لهم، ولا هي داعية موضوعياً إلى فرز يشدّ عصبيتها. هويات أخرى، عرقية، حزبية، مناطقية، طبقية، كانت أكثر قدرة ونجاحاً في الاستقطاب.

هل ناصر الماسونيون الصهيونية؟ في الأمر خلط زمني، إذ أن أوجّ الماسونية في الولايات المتحدة سابق لصعود الصهيونية بل لقدوم اليهود بأعداد كبيرة إلى العالم الجديد. على أن التقدير الكبير للأمة اليهودية في الأدبيات الماسونية كان مستقراً، بفعل اعتمادها على القصص الكتابية، دون أن يكون المصدر الأول للتعاطف المسيحي الأميركي اللاحق مع إسرائيل. هذا التعاطف أسّه وأساسه ومصدره الثابت هو مكانة العهد القديم في الحياة الدينية الأميركية، والتماهي خلال التاريخ الأميركي بين إسرائيل الكتابية وأميركا المعاصرة، وصولاً إلى اعتماد عقيدة الدور المتجدد لليهود.

أية قراءة، ولو مقتضبة، للتجربة الماسونية في أوروبا وأميركا والشرق تبيّن عمق الاختلاف بين الحالات الثلاث. زمن عزّ الماسونية في كل من أماكن التواجد هذه قد ولّى، ونشأت عنها بدائل فاعلة، أفضت بما تبقّى منها إلى ظواهر هي أقرب إلى الثقافة والتقليد منها إلى الفعل.

لم يكن يوماً تأثير الماسونية، أو البنائين الأحرار، في المشرق، حاسماً أو قاطعاً. غير أنه ليس هنالك ما يبرر نبرة العداء المستميت للماسونية إلا وراثة خصومتها مع المؤسسة الدينية الفرنسية. فكما أن العداء لليهود في المحيط العربي قد استورد واستوعب التصوير النمطي لليهود في أوروبا القرن التاسع عشر، فإنه استجلب معه هذا العداء الكنسي الفرنسي للماسونية.

المفارقة في الحالتين هي أن من يزعم العداء للاستعمار يتبنى المنتجات الطاعنة الصادرة من مجتمعاته دون حرج.

الإمام المجاهد عبد القادر الجزائري كان محقاً في مقاومته لإحدى أشنع حالات الاستعمار الاستيطاني في التاريخ، الاستيلاء الفرنسي على الجزائر، وكان مخلصاً لإنسانيته يوم وقف في دمشق الشام، ومعه خيرة أعيانها من المسلمين، ليتصدى لمقتلة المسيحيين فيها، والتي كانت قد أشعلت نارها مصالح سياسية غير عابئة بمصير أي من أهل الشام. وكان صادقاً يوم انضمامه إلى الماسونية في مد اليد إلى الإنسانية جمعاء. طاب ذكره.

شاهد أيضاً

روسيا التي لا تساند أحداً… علاقة غير عادلة مع إيران

بقلم: يوسف بدر – النهار العربي الشرق اليوم– في مقالته في صحيفة “وول ستريت جورنال” …