الرئيسية / مقالات رأي / تميز التّراث الأنواريّ

تميز التّراث الأنواريّ

بقلم: عبد الإله بلقزيز – سكاي نيوز

الشرق اليوم- يقع فكر الأنوار الأوروبيّ، في القرن الثّامن عشر، موقعاً مميَّزاً في تاريخ التّراث الفكريّ الإنسانيّ. مكانتُه، وتأثيراتُه، ومفاعيلُ إشعاعه التّنويريّ، وأدوارُهُ التّأسيسيّة تمنحه من الفرادة ما لا يضاهيه فيها تراثٌ فكريّ آخر.

ومع أنّه وُجِدت، دائماً، لحظات من الإنتاج الفكريّ في التّاريخ ذاتُ قيمة معرفيّة تأسيسيّة رفيعة – وذلك ما ينطبق، مثلاً، على الفكر الفلسفيّ اليونانيّ في القرنين الرّابع والثّالث قبل الميلاد، وعلى الفكر العربيّ في المشرق في القرن العاشر للميلاد (الرّابع للهجرة)، أو في الأندلس في القرن الثاني عشر للميلاد…- إلاّ أنّ لحظة الأنوار تبقى ذاتَ بريقٍ خاصّ، قد يكون مأتاهُ من أنّها أنجزت مهمّة تدشينيّة لعالمٍ جديد بدا، منذ وُلِدَ، منعطَفاً غيرَ مسبوقٍ في التّاريخ والحضارة الإنسانيّين.

وليس من شكّ في أنّ الاندفاعة الفكريّة الكبرى لعصر الأنوار – وقد اتّخذت شكلاً موسوعيّاً- أتت تجسّد حصيلةً لكلّ ما قبلها من لحظات الفكر الكبرى في التّاريخ الإنسانيّ، ولكنّها جسدتْها في شكلٍ نوعيّ وتركيبي جديد؛ فيه من النّقض والتّجاوُز للقديم وفيه من المستَوْعب والمحفوظ في الوقت عينه: إن نحن قرأناها بمنطق الجدل الهيغليّ. ولكنّ الأنوار لم تكن محضَ لحظة معرفيّة تبني على تراث الإنسانيّة الفكريّ كلّه، وإنّما كانت – في الوقت عينه – تستأنف حلْقاتٍ من التّطوُّر أخرى كانت أوروبا قد شرعت في إنجازها، منذ نهايات القرن الخامس عشر، مثل النّهضة والإصلاح الدّينيّ. ومعنى ذلك أنّ للأنوار تاريخيْن مَتَحتْ من مخزونهما وبنت على معطيات مرجعيّتيْهما، هما: التّاريخ الفكريّ الشّامل أو الكونيّ، والتّاريخ الأوروبيّ الخاصّ. وهكذا لمقدار ما يعثر الباحث في الأنوار على مشتَرَكاتٍ بينها وثقافاتِ حضاراتٍ أخرى، من أزمنةٍ مختلفة، يعْثُر على ما هو أوروبيٌّ خاصٌّ فيها وجديد لا تشترك فيه حضارةٌ أخرى مع أوروبا.

مع ذلك؛ مع كلّ هذا التّراث الفكريّ الهائل، الإنسانيّ والأوروبيّ، الذي نهلت منه الأنوار وتوسّلته لصناعة اندفاعتِها الكبرى في القرن الثّامن عشر، كان للثّورة العلميّة في أوروبّا – بين القرنين السّادس عشر والثّامن عشر- الأثرُ الأظهر في تزويد فكر الأنوار بطاقة الاشتغال ووقودِه المحرِّك. لقد كرّست علومُ الفلك والميكانيكا والرّياضيّات والفيزياء نتائجَها في ميادين الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة كافّة؛ في العمل، والإنتاج، والتّنظيم الاجتماعيّ، والمدن، والمواصلات، والزّراعة، والصّناعة… إلخ. لكنّ الأهمَ من ذلك أنّها رسَّخت روحيّة التّفكير العلميّ، الرّياضيّ كما التّجريبيّ، في الفكر الإنسانيّ. بصْمات تلك الرّوحيّة مائلة في تراث الأنوار الفلسفيّ؛ العقلانيّة والتّجريبيّ معاً؛ كما في التّراث الأدبيّ والفنّيّ، ناهيك بميلاد علوم جديدة – خارج علوم الطّبيعة – مثل علم الاقتصاد (آدم سميث) الذي استثمر تلك الرّوحيّة العلميّة في بناء موضوعاته.

ماذا تكون الأنوار غير تلك الورشة الفكريّة الهائلة التي صنَّعت مفاهيمَ ومبادئ جديدة، وأنتجت حولَها أمّهات النّصوص والأفكار التي ستصبح، منذ ذلك الحين، في قلب العالم الحديث؟: من يقينيّاته وأبجديّات تفكيره، ومن قواعد الاجتماع الإنسانيّ فيه، ومن المبادئ الحاكمة للفكر والعمل. إنّ العقلانيّة، والنّزعة التّجريبيّة، وبمبادئ الحريّة، والمساواة، وحقوق الإنسان والمواطن، وأفكار الدّيمقراطيّة، والعلمانيّة، والدّولة- الأمّة، والقوميّة، والسّيادة، وعقلنة الاقتصاد والتّنظيم المجتمعيّ… هي من الثّمرات الكبرى التي أنضجتها لحظةُ الأنوار وحوّلتْها إلى تراثٍ فكريّ برسم الاستخدام السّياسيّ والاجتماعيّ من أجل هندسةٍ جديدة للمجتمعات والأمم والدّول.

حين نتحدّث، اليوم، عن العقلانيّة، والنّظام الدّيمقراطيّ، والدّولة الوطنيّة الحديثة، والدّستور، والسّيادة الوطنيّة، والفصل بين السّلطات، وحقوق الإنسان والمواطنة، وحريّة الرّأي والتّعبير والانتماء، والعَلمانيّة، والوحدة القوميّة، والعقلانيّة الاقتصاديّة، وعقلنة التّنظيم وسواها ممّا ميَّز مجتمعات أوروبا والغرب ودُوَلها، وصَنَع لها الألمعيّة مقارنةً بغيرها من مجتمعات العالم ودولهِ الأخرى، فنحن إنّما نتحدّث عن تجسيدٍ ماديٍّ، سياسيّ واجتماعيّ، لتلك المبادئ والأفكار التي خلَفها تراث الأنوار فكانت دليلَ عملٍ لهاتيك المجتمعات والدّول. لقد خرج الغرب الحديث والمعاصر؛ غربُ القرون 19 و20 و21 من جوف هذه اللّحظة الأنواريّة التّنويريّة، وأقام بذلك دليلاً على أنّ الثّورة الفكريّة – وقد مثّلها عصرُ الأنوار وتراثُه – شرطٌ لازبٌ للثّورة الاجتماعيّة والسّياسيّة التي يعيش الغربُ نتائجَها ومكتسباتها في يوميّات اجتماعه.

من غير المشروع، تماماً، ونحن نقيم الصّلة بين مكتسبات الغرب الحديث والمعاصر وعصر الأنوار، أن نُماهيَ بينهما مماهاةٍ كاملةً ونذهب إلى الاستنتاج بأنّ الغرب تجسيدٌ كامل لتراث الأنوار؛ فالفارق بينهما ممّا لا يمكن محْوُه. وليس حاملُنا على هذه الملاحظة الاستدراكيّة أنّ كثيراً من مبادئ الأنوار لم تجد لها تطبيقاً ماديّاً لاحقاً فحسب، بل لأنّ الكثير من سياسات الغرب أتت تتنكّر لتراث الأنوار وتجافي مبادءَه، حتّى لا نقول إنّها بدت وكأنّها تمثّل نقضاً كليّاً لذلك التّراث!

شاهد أيضاً

لبنان- إسرائيل: لا عودة الى ما قبل “طوفان الأقصى”

بقلم: علي حمادة- النهار العربيالشرق اليوم– تسربت معلومات دبلوماسية غربية الى مسؤولين لبنانيين كبار تشير …