الرئيسية / مقالات رأي / اقتصاد الاستهلاك

اقتصاد الاستهلاك

بقلم: عبد الإله بلقزيز – سكاي نيوز

الشرق اليوم- ما بين نظامٍ اقتصاديّ وإنتاجيّ في التّاريخ نَجَح في إشباع الحاجات الماديّة للنّاس مثل النّظام الرّأسماليّ. نجح في ذلك لأنّه حقَّق وفْرةً في السِّلع والمنتوجات؛ وهي وفرة بلغت، أحياناً، حدوداً ارتدّت عليه بجسيم الخسائر، خاصّةً حينما يزيد العرض عن الطّلب زيادةً لم يكن يمكن السّيطرة عليها بالنّظر إلى نظام المنافسة السّائد وقوانينها التي كثيراً ما كَبَحَت منازع الاستثمار إلى تعظيم الأرباح.

ولقد تهيّأت لنظام الرّأسماليّة شروطٌ تاريخيّة موضوعيّة سمح له اغتنائها بأن يحقّق تلك الوفرة الهائلة في المنتوجات، التي بها أشبعَ تلك الحاجات. أظهرُ تلك الشروط الثورة العلميّة الكبرى، التي انطلقت بين القرنين السّادس عشر والثّامن عشر، والتي تولّدت منها مختَرعات كانتِ الرّأسماليّة نفسُها شريكاً رئيساً في إخراجها إلى الوجود، وغالباً ما استُدْخِلت في جملة أدوات الإنتاج التي سخّرتْها. وهي ثورةٌ لـم تفتأ تشهد على منعطفات كبرى في تاريخها، تُساوِقها انتقالاتٌ نوعيّةٌ في التّكنولوجيا – الخارجة من رحم العلوم- التي ما تلبث، هي الأخرى، أن تصير من عُدّة الإنتاج الرّأسماليّ وعتاده، ومن الدّيناميّات الدّافعة نحو مزيدٍ من تحقيق الوفرة في السّلع والمنتوجات.

وما من نظامٍ إنتاجيّ نجح في مخاطَبَةِ الماديِّ والغرائزيّ في الإنسان مثل النّظام الرّأسماليّ. وما كانت مخاطَبَتُه له، دائماً، من باب إشباع ما يَطْفِرُ منها ويُفصِح عن نفسه، فحسب، بل كثيراً ما نجح فيها من باب توليده حاجات جديدة لدى الإنسان لم يكن لِيَعيها كحاجات، أو لم تكن في حكم الحاجات لديه، ولا كان يبحث لنفسه عن طريقةٍ مّا لإشباعها، لكنّ توليد الإنتاج الرّأسماليّ لها، وتوفير العَرضِ لها حوّلها إلى حاجةٍ جديدة لديه و، بالتّالي، دفعه إلى السّعي إلى إشباعها ممّا يَعْرضه عليه منتوجُها المهيّأ لهذا الغرض.

هكذا نجح النّظام الرّأسماليّ في أن يضع البشريّة، برمّتها، أمام نوعيْن من الحاجات الذّاتيّة؛ نوع مألوف هو الحاجات الطّبيعيّة، المرتبطة بضرورات النموّ والبقاء؛ وقد فاقتِ الرّأسماليّةُ غيرها في إجابتها وإشباعها بما غَطَّتْه منتوجاتُها من خصاص فيها؛ وحاجات صناعيّة، غير طبيعيّة، اصطنعتْها للنّاس وأقنعتهم، مع الزّمن، بطبيعيّتها وبضرورة إشباعها، ثمّ ما لبثَ المعروضُ عليهم من المنتوجات المُشْبعة لتلك الحاجات أن بات مألوفاً لديهم ومرغوباً و، بالتّالي، جزءاً من عادات الاستهلاك الجمْعيّ، ومن يوميّاتِ إنفاقٍ ما يفتأ يتعاظم مع تعاظُم الحاجات الاصطناعيّة إيّاها، وتزايُد قوّتها الإغرائيّة. هكذا أتتِ الصّناعةُ – وهي من ثمرات الرّأسماليّة، تزاحِم الطّبيعةَ في إنتاج الحاجات الإنسانيّة، بل تتفوّق عليها، أحياناً، بمعروضاتها لتخلق للإنسان طبيعةً ثانية تُجاوِر طبيعتَه الأولى.

ترسَّختْ، في الامتداد، نزعةُ الاستهلاك وتمكَّنت من النُّفوس والأذواق، وقام على أساسها اقتصادٌ استهلاكيّ يوازي مطالبها ويجيبها، في الوقت عينِه الذي يخلق لها حاجات جديدة تستنفرها وتستدرج طلبها، أو يتفنّن في إغرائها بمزيدٍ من المعروض الجديد الجذّاب. ومثل أيّ اقتصادٍ يحتاج إلى تسويقٍ جيّد وجذْبٍ للزّبائن، كان على الاقتصاد الاستهلاكيّ أن يوفّر لمنتوجاته الأقنية المناسبة لاستدراج جمهور المستهلكين للإقبال على اقتنائها. وكان على صناعةٍ أخرى رديفٍ أن تقوم لهذه الغاية هي صناعة الإعلانات والإشهار، فتولّت شركاتُها ومؤسّساتُها دور إغراء جمهور المستهلكين بمنتوجات الاقتصاد الاستهلاكيّ. سُخّرت لذلك وسائط إعلام متنوعة؛ من صحيفةٍ، وإذاعةٍ، وتلفاز، ومواقع إلكترونيّة، ومنصّات تعليق الملصقات، وكلّ وسيلة قابلةٍ لتوزيع المادّة الإشهاريّة البصريّة بالمصاحبة الكلاميّة ذات الحبكة السّينمائيّة الفُرجويّة، أو بالبيانات المكتوبة تعريفاً بـ”فوائد” المادّة المعروضة.

هكذا بات للاستهلاك اقتصادُه ومؤسّساته ومهندسوه وألسنته اللاّهجة بجودة وسلامة منتوجاته. وتحوّلتِ المجتمعات إلى قطعانٍ تنساق وراء مَن يأخذها إلى المراعي ويختار بها نوع ما تقتات منه، مع فارقٍ هو أنّ على هذه القطعان البشريّة أن تدفع ثمن ما منه تقتات. في المقابل كان على الذين رسّخوا نزعة الاستهلاك في ملايين البشر أن يطمئنّوا إلى عائدات صنائعهم وجزيل فوائدها؛ فلقد تمكّن فيروس الاستهلاك من المجتمعات كافّة، وكيَّف أذواقها مع أنواع المعروضات عليها منذ رَبِحَتْ أجيالٌ متعاقبة من أطفالها عليها، فصار الصّناعيُّ منها قاعدةً والطّبيعيّ شذوذاً! شيئاً فشيئاً لم يعُدِ الاستهلاك عادةً جمعيّةً فحسب، بل بات ثقافةً موجِّهة للتّفكير والوعي والفعل، فانتقلت البشريّةُ بذلك من ثقافة الإنتاج إلى ثقافة الاستهلاك. وكما يمكن المرءَ أن يُشبع حاجةً ماديّةً (التّغذية مثلاً) باستهلاك منتوج غِذائيّ، أصبح يسيراً عليه – بدافعيّة الاستهلاك – أن “يُشبع” حاجةً فكريّةً باقتناص معلوماتٍ سائبة في الشّبكة العنكبوتيّة؛ فكلّ شيءٍ جاهزٍ ومعلّب في عصر اقتصاد الاستهلاك.

شاهد أيضاً

أحلام مقتدى الصّدر وأوهام مناصريه

بقلم: فاروق يوسف- النهار العربيالشرق اليوم– عندما يُشفى العراقيون من عقدة اسمها مقتدى الصدر يكون …