الرئيسية / مقالات رأي / اختطاف آخر ملاذات العراقيين المظلومين

اختطاف آخر ملاذات العراقيين المظلومين

بقلم: د. ماجد السامرائي – العرب اللندنية

الشرق اليوم- هل كان يتوقع شخص مغمور من عموم “اللطامة” ومتنافسي الردح الطائفي، والمتنقلين من فصيل إلى آخر أكثر تطرفا، أن يصبح اسمه في التسلسل الأول في أخبار ما تسمّى قنوات الاتحاد الإسلامي المحلية والقنوات المتسابقة على أخبار الميليشيات، وأن يصبح مادة لمحللي القنوات الرخيصة والمتوسطة أو تلك التي تسعى إلى تقديم تحديث في الرتابة التي وصلت إليها الميليشيات في علاقتها برئيس الوزراء مصطفى الكاظمي.

لا شك أن قاسم مصلح مُتعجّب على حاله أن يصبح نجمة صباح ساطعة في سماء العراق المتلبدة بغيوم الظلم، قبل أن تشرق شمس يوم الرابع عشر من احتجازه، ليعود منتصرا شاكرا القضاء ومحاطا بالميليشيات التي اعتبرت الحدث انتصارا يضاف إلى انتصارات الحشد، وينتهي سيناريو الفيلم الإيراني الميليشياوي “لعدم كفاية الأدلة” مع الاعتذار للفيلم المصري.

الكثير من القضاة النزيهين لا يتخذون الإجراءات الدستورية ضدّ جهات سياسية متنفذة بسبب الخوف. وقد حدث أكثر من استهداف للكثير من القضاة بسبب قرارات عادلة

يبدو من أحاديث محللين معارضين في برامج موجهة للعراقيين من بلد مجاور، كَشَفَ هذا الفيلم رديء السيناريو والصنعة، أنهم أكثر من غيرهم التصاقا بالنظام القائم. وتبدو ملامح انحيازهم في الفترات الحرجة بظواهر النقد، لكن في حقيقتها توزيع للأدوار، ودفاع حين يتطلب الأمر للتأثير النفسي في أوساط شعبية بحاجة إلى المناصرين بالكلمة، لعلها تُخدّر الجرح ولا تداويه، وتخلط الأوراق بدلا من أن تفرزها.

بعض هؤلاء حاول فلسفة لحظات انتقال سيناريو الفيلم من اقتياد المتهم بقتل أبرز ناشطي ثورة أكتوبر باعتقاله وفق المادة “أربعة إرهاب” وفق حيثيات الحكومة، وحتى خروجه “بريئا” وفق القضاء، بأنها لحظات مصيرية كادت تقود العراق إلى كارثة الحرب الشيعية لولا حكمة الوالي الإيراني وتدخله في اللحظة المناسبة لإبطالها.

الخلاصة المطلوب إيصالها من خلال هذا السيناريو للرأي العام العراقي والعربي والإقليمي وواشنطن المنشغلة بترتيبات الاتفاق النووي، أن طهران هي الحاكمة والمتحكمة الوحيدة بمصير العراق، مع أن هذه الحقيقة لا تحتاج إلى تأكيد، وأن الميليشيات التي تقتل شباب العراق يوميا لا يجرؤ أحد أن يقدّم أحد أفرادها كمتهم في زمن الوصاية الإيرانية، وأن عهد ازدواجية التحكم بين واشنطن وبغداد قد انتهى بوصول الرئيس الأميركي جو بايدن إلى البيت الأبيض، فإيقاع مفاوضات فيينا يجب أن يمّر سريعا خلال أسابيع وليس شهورا أو سنوات كما حصل في مسقط.

النتيجة العرضية المهمّة في هذا المشهد لدى كل سياسي عراقي شريف تخلّص من لوثة الطائفية وكل مواطن مظلوم، أن يوم خروج المتهم بالإرهاب قاسم مصلح من مكتب الاحتجاز عند أولياء أمره في الحشد وعودته “معافى” قد أنهى المهمة الاستعراضية التي استمرت لأكثر من عام للكاظمي بأنه سيمسك بقتلة الشهداء ويقتص منهم.

سبق للكاظمي أن أكثر من إطلاق تصريحات نارية بعد ساعات من جريمة مقتل الوزني، ووصف قتلته بأنهم “موغلون في الجريمة وواهم من يتصور أنهم سيفلتون من قبضة العدالة”. وحين اعتقال مصلح أكدت التقارير الحكومية وجود أدلة دامغة على تورّطه بمقتل الشهيد الفقيد حتى وإن لم يقتله بمسدسه. فعصابات القتل المنفذين كثر. كما توعّد الكاظمي قبل ذلك بملاحقة قتلة الخبير السياسي هشام الهاشمي قائلا “سنلاحقهم ولم نزل في التحقيقات وقد وصلنا إلى خيوط وبانتظار الوقت المناسب للإعلان”.

رغم نباهة شباب الثورة وتشخيصهم للكاظمي، منذ أيامه الأولى في الحكم، بأنه الوجه الناعم لتورط الأحزاب والميليشيات “بيّاع كلام”. لكن أسر الشهداء أملت أن يُمسك بالقتلة ويحاكمهم وفق القضاء الذي توقعته عادلا منصفا، وإنه قد أعدّ العُدّة للمواجهة مع الميليشيات، فاستبشرت ومعها كثر من الخيّرين بالبلد، وشجعته الدول الكبرى، وفي مقدمتها واشنطن ولندن، وأعلنت دعمه في خطواته. لكن دهاة طهران رتبوا إخراج السيناريو بطريقة لا تحرج الكاظمي لتظهره بأنه نفذ ما عليه، لكن القضاء هو الذي اتخذ قرار الإفراج عنه. ولا تضيف لهذه الحقيقة تصريحات المسؤول الحكومي بأن قرار القضاء جاء بعد الضغوط التي مورست عليه.

كثيرون يتساءلون لماذا ذهب الكاظمي إلى هذه الخطوات في سياق الكشف والتحقيق مع القتلة، لدرجة الإعلان عن اتهام مصلح بالمادة “أربعة إرهاب” وهي مادة معروف عن المحالين وفقها، وهم بالآلاف، من المكّون السني لا يُطلق سراحهم بكفالة وبعضهم حكموا بالإعدام، وآخرون تعرضت أسرهم للابتزاز من قبل مسؤولين نافذين في الميليشيات لإطلاق سراحهم لقاء رشاوى خيالية اضطرت أهاليهم إلى بيع بيوتهم.

ألم يكن الكاظمي على علم بوضع القضاء العراقي حيث تُرحّل آليات التحقيق من السلطة التنفيذية إلى القضائية كمرحلة أخيرة؟

هناك وقائع كثيرة معلنة منذ الأسابيع الأولى لوصول الكاظمي إلى رئاسة الوزراء أكدّت مواقف رئاسة مجلس القضاء الأعلى السلبي من ملف الشهداء ومهادنتها لرغبات قادة الأحزاب والميليشيات. مثلا في الرابع من أكتوبر 2020 نفت السلطة القضائية تسلّمها أي ملف يخص المتورطين في قتل واختطاف المتظاهرين، في ردّ على تصريحات الكاظمي، التي يكثر منها بأن ملفات قتلة الناشطين رحّلت إلى القضاء، معتبرة الحديث عن ذلك مجرد شائعات.

مسلسل الإحباط متراكم منذ سنوات في مواجهة علية القوم للظلم في الاعتقال لسنوات دون محاكمات عادلة أو في قرارات حكم اتخذها القضاء لدوافع سياسيةَ، أو في تغييب الآلاف من الشباب في المعتقلات التي أنتجت المقابر الجماعية في مناطق هُجّر أهلها، وظن الناس أن هناك ملاذا أخيرا لتخفيف المظالم الكثيرة هو القضاء، مع أن الحقائق خلال سنوات أكدّت تواطؤ سلطة القضاء مع الأحزاب النافذة.

أمثلة كثيرة، ذات جانبين سياسي وأمني جنائي، أبرزها الدور الخطير الذي لعبه مدحت المحمود الذي عيّنه الحاكم المدني الأميركي بول بريمر رئيسا لمجلس القضاء الأعلى ثم رئيسا للمحكمة الاتحادية التي اشتغلت من دون قانون لسنوات طويلة.

كان المحمود بارعا في تقنين ودسترة رغبات قادة الأحزاب. والقصة أصبحت مشهورة كعلامة سوداء في تاريخ القضاء حين أفتى بفوز نوري المالكي في انتخابات عام 2010 التي فاز بها إياد علاوي، بتفسيره الفقرة الدستورية الخاصة بالانتخابات بأنّ الذي يحقّ له تشكيل الحكومة ليس الفائز في الانتخابات التشريعية وإنّما الذي ينجح في تشكيل ما بات يعرف بـ”الكتلة الكبرى” داخل البرلمان.

هذا التفسير الذي عرف في ما بعد ببدعة مدحت المحمود، تسبب أيضا بأزمة سياسية كبيرة بين كتلتي “الفتح” بزعامة هادي العامري و”سائرون” بزعامة مقتدى الصدر في انتخابات 2018، لكن في النهاية تقاربت وجهات النظر بوساطة إيرانية ولدت عنها حكومة عادل عبدالمهدي التي أرغمها شباب ثورة أكتوبر على الاستقالة عام 2019.

عطّل مجلس القضاء الأعلى ملفات كثيرة منها ملف سقوط الموصل الذي تسبب بقتل وإصابة أكثر من ربع مليون عراقي، وسقوط الفلوجة ومجزرتي جامع مصعب بن عمير وسبايكر ومجزرة الصقلاوية وتفجير الكرادة، وملف سرقة الآثار، وملف تسريب الدولار لإيران، وملف المليار ونصف المليار دولار المحتجزة في بيروت، وجريمة تفجير معمل النسيج في بابل، وصفقة الأسلحة الأوكرانية وصفقة الطائرات الروسية، وملف توزيع قطع الأراضي السكنية الوهمية، والعشرات من الملفات كان آخرها تزوير الانتخابات العراقية والتلاعب بأصوات الناخبين العراقيين.

هذه الملفات وغيرها مركونة في مكاتب مجلس القضاء الأعلى ويرفض رئيسه وأعضاؤه التحدث للصحافيين بشأنها، كما أنّ سياسيين يتحاشون التصادم مع القضاء خوفا من كسب عداوته.

طالب ثوار تشرين بإصلاح القضاء، وقبلها تظاهر المئات من الشباب عام 2015 في بغداد أمام مبنى مجلس القضاء والمحكمة الاتحادية مردّدين شعارات مناوئة للقاضي مدحت المحمود، رئيس المحكمة الاتحادية (أعلى سلطة قضائية)، متهمين إياه بالتواطؤ مع “حزب الدعوة”.

سبق للكاظمي أن أكثر من إطلاق تصريحات نارية بعد ساعات من جريمة مقتل الوزني، ووصف قتلته بأنهم “موغلون في الجريمة وواهم من يتصور أنهم سيفلتون من قبضة العدالة”

الكثير من القضاة النزيهين لا يتخذون الإجراءات الدستورية ضدّ جهات سياسية متنفذة بسبب الخوف. وقد حدث أكثر من استهداف للكثير من القضاة بسبب قرارات عادلة.

دهاء الولاة في طهران رتّبوا وأحكموا جميع المفاصل في السلطتين التنفيذية والقضائية لإبقاء المتورطين بالنهب والقتل في مأمن من الملاحقة، بل ولإظهارهم حماة للقانون والعدالة.

لم يعد أمام العراقيين سوى الاعتماد على إمكانياتهم رغم بساطتها لكنها من خلال تراكم المحن ستحدث التغيير المطلوب، وهذا ليس مجرد أمنية؛ دروس الشعوب، ومن بينها شعب العراق، خير مثال على انتصارها مهما طال الزمن.

شاهد أيضاً

الأمل المستحيل لإسرائيل

بقلم: عاطف الغمري – صحيفة الخليج الشرق اليوم- عندما يطرح مركز بحوث أمريكي مؤيد دائماً …