الرئيسية / مقالات رأي / عمّان .. دارُ المُلك وجارة الشمس

عمّان .. دارُ المُلك وجارة الشمس

بقلم: حسن إسميك – عمّون

الشرق اليوم – قد يبدو للوهلة الأولى أنه من السهل الحديث عن الأشياء أو الأشخاص أو الأماكن التي نحب، وكنت نفسي أعتقد ذلك حتى قررت الكتابة عن عمّان، فوجدتني محتاراً في وصف مدينة لم أعد أسكنها، لكنها تسكنني أينما رحلت وكيفما توجهت، متسائلاً كيف لي أن أحكي بحيادٍ عن الحاضنة الأولى لأحلام الطفولة والشباب؟ وأي كلام عن عمّان لا بُدَّ أن يحوي جانباً شخصياً يتعلق بما تعنيه لي، وآخر مستقلّ ترويه هي نفسها، يمتزج فيه تاريخ الأرض والحضارات والأحداث التي عاشتها، بحاضرها ودورها في قلب دائرة لا تخبو نيرانها، وبقدرتها على النجاة لتبقى صمام أمان المنطقة.
عندما يحب إنسانٌ مدينة كلَّ هذا الحب، تغدو وكأنها أمه، بكل ما للكلمة من معنى، يراها أجمل نساء الأرض وأطهرهن، يرتجي عطاءها ومحبتها وحنوّها أبداً، يأمل في مغفرتها ويتجاوز هِناتها، يعمل جاهداً كي تبقى شابة وقوية، ورغم أنه قد يقع في حب مدن عديدة، يبقى لتلك التي وُلد ونشأ فيها مكانة خاصة في روحه ووجدانه، وهو إذا ما انتقد شيئاً فيها إنما يكون مبعث ذلك حرصه على أن تبقى أفضل وأجمل المدن، كما يراها ويرى أنها تستحق.
عمّان إبنة الحضارات الأثيرة، والحاضرة التي يليق بها الدلال، تبدأ قصتها من “ربّة عمون” أو “دار الملك” منذ عام 7500 ق.م تقريباً، وتتابع عبر الزمن من أطراف الوادي “السيل” حيث انبثقت قرية “عين غزال”، وتسلّقت لتزرع الجبال السبعة المحيطة بعمارات بيضاء دافئة، تدفع إلى ذهني، بمجرد أن أستعيد صورتها، قول الشاعر البحريني علي عبد الله خليفة فيها:
صافحت سبعاً من الجبال في وطنٍ يزهو به نجم الثريا حين يأتلقُ
في التوراة اليهودية، تُوصف عمَّان بالمدينة الملكية وبمدينة المياه، أما زمن البيزنطيين فقد شهدت ازدهاراً كبيراً وصارت واحدة من أكبر المدن المسيحية الواقعة إلى الشرق من نهر الأردن. وبين هذا العصر وذاك، عبرت أراضيها حضارات الآشوريين والفرس والإسكندر المقدوني، ومنحها القائد اليوناني بطليموس فيلادلفوس الثاني اسم فيلادلفيا “مدينة الحب الأخوي”، وخصها الرومان باهتمام فريد يشهدُ عليه كمُّ لامتناه من الآثار القديمة بدءاً من رجم الملفوف وليس انتهاء بقصر العبد والمدرّج الروماني.
لم تكن المدينة أقل جمالاً وبهاءً عندما حكمها المسلمون في العصر الأموي ومن ثم الأيوبي، رغم أن الزمن والطبيعة لم تكن رقيقة معها دائماً، فقد أصابتها الزلازل والفيضانات، وتراجع دورها الذي أكسبها إياه وجودها على طريق الحج الشامي، لكن سكة حديد الحجاز عادت وشكلّت نسغاً آخر للحياة في المدينة الصغيرة الوادعة، فصارت مصدر جذب للعمل والنشاط التجاري والسياحي، ودفعت الحكومة العثمانية إلى الاهتمام ببرك الماء وترميم المباني والمساجد فيها، وأخذت المؤسسات المدنية ومختلف مظاهر الحضارة العصرية بالظهور فيها تباعاً.
بدأت “المدينة البيضاء” بخياطة حلّتها المشرقية الجديدة في العهد الهاشمي، حين اتخذها الأمير عبد الله بن الحسين بن علي عاصمة لإمارة شرقي الأردن التي أسسها عام 1921، هذا التأسيس المجيد الذي أرَّخ له الكاتب والمؤرخ والشاعر السوري العروبي خير الدين الزركلي في وثيقة مهمة عنوانها: “عامان في عمّان”، وبدأت المدينة منذ ذلك الحين باجتذاب العائلات من مختلف مناطق بلاد الشام ومن الحجاز، ولقد كان التجمع العربي الذي احتضنته عمّان منبراً قوياً في مواجهة محاولات تقسيم وتجزئة سوريا في تلك الفترة.
وفي ثلاثينات القرن العشرين وأربعيناته، تحولت عمّان إلى ما يشبه “المدينة الفاضلة” التي تتحقق فيها الأحلام، حسب ما تصفها الروائية الأردنية سميحة خريس. وفي عام 1946 صارت عمَّان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية، وظلت قضايا العرب جزءاً رئيساً من اهتمام حكامها، فشكلّت مركزاً للدفاع عن عروبة فلسطين وهويتها، حيث كانت –بحكم القرب الجغرافي وأواصر القربى– الملاذ الأول للاجئين الفلسطينيين، وحتى العرب بالعموم، بدءاً من عام 1948 وخلال حرب 1967 وحرب الخليج وصولاً إلى الحرب في سوريا، حيث لا تزال المملكة تشكلّ الملجأ الآمن لكل طالبيه دون تفرقة، ورغم أنَّ عمَّان لم تكن عاصمة دولة كبرى في الإقليم؛ كنظيرتيها دمشق وبغداد، ولم تحمل طابعاً دينياً خاصاً كالقدس، ولم تكن صاحبة موارد وثروات هائلة، إلا أنها استطاعت بالمحبة والاحتضان انتزاع مكانة خاصة لها ميّزتها على الدوام، فكانت مدينة بيضاء القلب، مثلما هي بيضاء القالب حيث يغلب هذا اللون على أبنيتها المنتظمة.
أما التلال التي تمتد عليها عمّان فقد منحت هذه المدينة ميزة جمالية أخرى متمثلة بالأدراج البديعة التي تربط حاراتها، وقد أصبحت هذه الأدراج إلى جانب المقاهي (مثل مقهى حمدان ومقهى الجامعة العربية والسنترال) تستقطب المثقفين والشعراء والسياسيين كمعالم ثقافية منذ الأربعينيات، وانضمت إليها دور السينما فيما بعد.
عرفت المدينة الانفتاح والتنوع فجمعت العربي والشركسي والكردي وغيرهم، وكلهم يرتدون أغطية رأس تعكس أصولهم المختلفة، ما دفع رامي الضاهر، أستاذ العمارة في الجامعة الألمانية الأردنية، إلى إطلاق لقب “مدينة الطواقي” على عمان. ولقد شكَّل هذا التمازج الفريد ثقافة المدينة عبر أعوامها المئة، ولا تزال تستطيع استكشاف جماليته وفرادته بمجرد مرورك في شوارع المدينة.. كشارع الثقافة والوكالات ومكة وشارع المدينة المنورة والجامعة الأردنية وأسواق الصويفية والرابية وجبل اللويبدة وجبل الحسين وأم أذينة، حيث تتناثر المقاهي والمطاعم ذات الطابع الشرقي والغربي إلى جانب الأكلات الأردنية الشهيرة، فتتذوق التاريخ والجمال والأطعمة الفريدة.
يقول أحد أصدقائي العرب، ممن أقاموا في المملكة لسنوات طويلة: “إنّ الأردن هي عمّان”، ففيها تتجلى سمات البلد عامة من الناحية الثقافية والاقتصادية، وفيها صورة المجتمع الأردني بعاداته وتقاليده وطيبته وكرمه وجدّيته، وهي نقطة استقطاب للكثير من السياح العرب والأجانب لموقعها المتميز وجبالها السبعة الزاخرة بالآثار، إلى جانب عمارتها المعاصرة وتنظيم شوارعها والالتزام الكبير بالقانون في جميع المفاصل، يشهد لها بذلك كل من يزورها فلا يستطيع إخفاء إعجابه بهذا الجانب المهم الذي نفتقده في غالبية ما يجاورها من مدن مع الأسف. ناهيك عن كونها العاصمة التي تُصنع فيها القرارات السياسية على جميع المستويات.
لعبت عمان دوراً أساسياً في قضايا المنطقة نظراً لارتباطها المباشر بالقضية الفلسطينية وما يتصل بها، وعمل الملك حسين بن طلال منذ اللجوء الفلسطيني إلى الضفة الشرقية عام 1948، على تحقيق التوازن مع التخبطات والاضطرابات السياسية. ورغم أنها كادت أن تدفع ثمن الحسابات الخاطئة لبعض الأطراف الفلسطينية عام 1969 وما بعده، لكنها تحركت سريعاً لاحتواء الخلل لتعود مرة أخرى وتمارس دورها المهم كوسيط بين العرب والغرب، هذا الدور الذي ساعد على إبقاء نوع من التوازن السياسي في المنطقة، خاصة مع ظهور تهديدات مباشرة من بعض الأنظمة والكيانات العربية المحيطة في فترات مختلفة، أو الأخطار المحتملة التي كانت تطلّ برأسها على المملكة جرّاء المكاسرة الأمريكية–السوفيتية. لكنها نجت ونجحت في لعب دور إقليمي جعل كل الأطراف مضطرة للتفاوض معها. وحتى بعد الأحداث العاصفة التي شهدتها المنطقة العربية خلال العقد الأخير، نجحت عمان في الحفاظ على أمنها وبقائها بعيدة إلى حد كبير عن كرة اللهب التي ظلت تدور على حدودها، وذلك بفضل سياسة أدركت مبكراً أهمية السلام للاستمرار والنماء.
ومثلما هي معتدلة في السياسة، يسود الإسلام الوسطي المستمد من شرعية هاشمية جو عمّان، وكان هذا عاملاً مهماً أبقى المدينة بعيدة عن التطرف والفكر التكفيري، فحمَت نفسها وحمت الآخرين ممن احتاجوا أرضاً آمنة يركنون إليها في الأوقات العصيبة الكثيرة التي مرت بالمنطقة. ورغم أنها شهدت بعض الحوادث المرتبطة بالإرهاب، لم تسمح السلطات الأردنية بامتداد الفتنة داخل أراضيها، مستندة إلى سياسة ركزت على العنصر البشري بالدرجة الأولى، فاستغلت السلام الذي سعت إلى دعمه لبناء الإنسان أولاً، ولتعزيز الطاقة البشرية من خلال رفع سوية التعليم وتأكيد سيادة القانون وتشجيع وجود مناخ ثقافي متنوع، يسانده اقتصاد يقوم على أساس المشروعات الحرّة والخدمات والزراعة، نظراً لافتقار البلد إلى الموارد والثروات.
لقد تمكنت المملكة بعد عام 1995 من تحقيق ارتفاع في الناتج الوطني وتقليص المديونية الخارجية بعد ظروف صعبة واجهتها خلال الثمانينات متأثرةً باضطرابات المنطقة. ورغم تأثرها بالأزمات والتحديات الاقتصادية التي سادت نتيجة ظروف الإقليم برمته، حقق الأردن خلال العقد الماضي مؤشرات حياة نوعية مرتفعة، نتيجة اتباع نهج اقتصادي مختلط بين العام والخاص، فاستطاعت البلاد تجاوز العبء السكاني الذي فرضه اللجوء، بل وتحويله إلى مورد جديد ورافد للاقتصاد الوطني.
عمّان مدينة مستمرة النمو، تعرف كيف تستفيد من الظروف المحيطة، ورغم قلة مواردها، فقد استفاد أهلها مبكراً من الطفرة النفطية لدول الخليج العربي المجاورة، لبناء مدينتهم والنهوض بها، كما ساعد جوّها الحاضن للتنوع على إبراز مقدرات المهاجرين إليها في فترات الحروب المحيطة، والنتيجة كانت تراكماً ثقافياً وحضارياً نشهده اليوم بأبهى صوره في جبل عمان واللويبدة التي تزخر بدور الفنون وتجمع المثقفين في بيئة خلاّقة واحدة، كما نشهده في تطور عمراني وتعليمي وسياحي جاذب للآلاف من مختلف أنحاء المعمورة.
احتفلت مدينة عمّان، ونحن معها، في العام الحالي بمئوية تأسيس الدولة الأردنية، وفي هذا الإطار كان مجلس الوزراء الأردني قد بادر إلى اعتماد الثاني من شهر آذار من كل عام يوماً لمدينة عمّان، أسوة بمدن عريقة أخرى في العالم، وكلي ثقة أن تنجح هذه المبادرة، ومثيلاتها، في تقديم صورة متجددة عن المدينة تعكس المشهد الأردني العام كنموذج مستقر يعرف كيف يوظف السلام لما فيه خير مواطنيه، مع الحفاظ على دور مؤثر في قضايا المنطقة، وتطلع جاد لبناء وإعادة إحياء علاقات عربية–عربية (خاصة مع مصر والعراق)، ولاستثمار خصوصية الدبلوماسية الأردنية ودورها الفعّال كرابط بين العالمين الغربي والعربي، مع تمسك مستمر بحقوق الفلسطينيين، وتقديم الدعم لهم على كافة المستويات.
غادرت عمّان لكنها لا تغادرني، وهي في خاطري دائماً الصبية المشرقية التي تجمع ألق الماضي وسحره وروح المعاصرة وجاذبيتها، وأرى فيها نموذجاً يستحق التكرار والتعميم على طول البلاد العربية، مدينة الحُسن والإنسانية والحب الأخوي، مدينة تتسلق سبع جبال لتصير جارة للشمس.
وأخيراً إن ما يؤلمني كثيراً هو تصاعد الخطاب الشعبوي العاطفي الذي يمارسه بعض أبناء قبائل الأردن والذي أصبح ينقاد فيه الرأي العام، ويمكن أن يؤثر على توازناته واستقراره. واليوم وفي هذه الظروف العصيبة التي تمر بها المنطقة عامة، وتراجع مستوي الدعم المالي من الأشقاء العرب والغرب لبلدي، لم يتوان الأردن في خدمة شعبه بل وأبناء المنطقة أيضاً، حقاً تمر على عمان أيام عصيبة لم تمر بها من قبل، ولكنني على يقين مطلق بقدرة الأردن على تجاوز كل المحن والصعاب بالوحدة والتكاتف بين الشعب وجلالة الملك عبد الله الثاني.

شاهد أيضاً

الأمل المستحيل لإسرائيل

بقلم: عاطف الغمري – صحيفة الخليج الشرق اليوم- عندما يطرح مركز بحوث أمريكي مؤيد دائماً …