بقلم: الحسين الزاوي – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- يبدو المشهد السياسي في فرنسا شديد الغموض منذ أن بدأ تأثير الأحزاب التقليدية في التراجع بشكل غير مسبوق، لصالح أقصى اليمين بقيادة التجمع الوطني الذي تقوده مارين لوبان من جهة وبقايا أقصى اليسار بقيادة جون لوك ميلونشون من جهة أخرى، ومن المتوقع أن يستمر هذا الغموض على مستوى الممارسة السياسية في فرنسا خلال الانتخابات الرئاسية التي ستجري في 2022.
ويُجمع المتابعون للشأن الداخلي الفرنسي على أن باريس تشهد أزمة سياسية واقتصادية غير مسبوقة، مرشحة للتفاقم مستقبلاً على خلفية الاستقطاب الحاد ما بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، بسبب المشاكل المتعلقة بالهوية داخل المجتمع والتي بدأت تُطرح بحدة خلال السنوات الماضية، نتيجة للصعوبات التي تواجهها الدولة الفرنسية في إدماج مواطنيها المنحدرين من أصول مهاجرة.
وقد سبق للكثير من السياسيين والمفكرين الفرنسيين، ومن بينهم الفيلسوف لوك فيري أن حذروا من المخاطر الناجمة عن الاستقطاب السياسي الحاد، بسبب إضعاف أحزاب وسط اليمين واليسار، لاسيما بعد أن لجأ الرئيس الحالي إمانويل ماكرون إلى تأسيس حزب “الجمهورية إلى الأمام”، على حساب الجمهوريين بوسط اليمين والاشتراكيين بوسط اليسار، وقيامه باستمالة العديد من الكفاءات السياسية المنتمية لهذين التيارين السياسيين اللذين كان لهما حضور قوي في المشهد السياسي الفرنسي لسنوات عديدة. وبالتالي فإن إفراغ الساحة السياسية الفرنسية من أحزابها العريقة، والذي يتزامن في المرحلة الراهنة مع فشل حزب ماكرون في الإيفاء بوعوده السياسية والاقتصادية، سيقود خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة إلى مواجهة غير متكافئة، بين حزب ماكرون من ناحية والأحزاب المتشدّدة وفي طليعتها حزب التجمع الوطني من ناحية أخرى.
ويذهب بعض المراقبين إلى أن المشهد العام في فرنسا بات أكثر سوءاً بالنسبة لليسار، الذي فقد الكثير من شعبيته بعد التراجع الذي شهده الحزب الاشتراكي في الانتخابات الرئاسية الماضية والتي عرفت خسارة المرشح الاشتراكي بونوا هامون بنسبة لا تعكس حجم الانتشار الكبير الذي كان يتميز به الحزب الاشتراكي منذ الثمانينات من القرن الماضي؛ وما يزيد الأوضاع سوءاً بالنسبة لهذا الحزب على مستوى السياسة الداخلية، هو أن قسماً معتبراً من الرأي العام الفرنسي المدعوم من وسائل إعلام قوية أصبح ينظر بعين الريبة إلى اليسار بشكل عام ويتهم أحزابه بمختلف أطيافها بالتحالف مع التيارات المحسوبة على الإسلام السياسي في فرنسا.
أما على مستوى السياسة الخارجية، فإن الحزب الاشتراكي بدأ يتبنّى منذ سنوات عديدة مواقف لا تختلف كثيراً عن مواقف اليمين التقليدي، بل إن يمين الوسط الجمهوري كان أكثر تميّزاً في سياسته الخارجية من الاشتراكيين وكانت له مواقف تاريخية شجاعة في التصدي لمحاولات واشنطن الهادفة إلى فرض أجندتها في العديد من الملفات الدولية، في الوقت الذي تميّزت فيه مواقف الاشتراكيين بالانحياز بشكل غير طبيعي للسياسات الأمريكية وللمقاربة الغربية في التعامل مع الصين وروسيا.
ونستطيع أن نزعم أن هناك تحولات جديدة بدأت تطرأ على المشهد السياسي الفرنسي، من شأنها أن تزيد من غموض وتعقيد الأوضاع الداخلية لهذا البلد، لاسيما منذ البيان الأخير الذي وقعته مجموعة من القيادات العسكرية الفرنسية، والذي يعكس مقدار التذمر الحاصل داخل المؤسسة العسكرية الفرنسية، بسبب فشل النخب السياسية في الاضطلاع بمهامها؛ وهناك في السياق نفسه دراسة ميدانية تشير إلى أن نسبة هامة من الفرنسيين عبّرت عن استعدادها للتصويت، لصالح قائد الأركان السابق الجنرال بيير دوفيلييه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، الأمر الذي يعكس مستوى تراجع ثقة الفرنسيين في السياسيين المتواجدين في السلطة والمعارضة على حدٍ سواء.
وتؤكد هذه التطورات أن تراجع تأثير الأحزاب التقليدية في فرنسا، يفتح الباب واسعاً أمام الجبهة الوطنية وأمام العسكريين المتحالفين مع السياسيين الرافضين لضعف اليمين التقليدي، من أجل خلق توازنات جديدة على الساحة السياسية الفرنسية، لمواجهة التحديات الناجمة عن فقدان الدولة القومية في فرنسا للكثير من عناصر قوتها وإخفاقها في بلورة مشروع مجتمع جديد، الأمر الذي برز بشكل واضح خلال أزمة “السترات الصفراء”.