الرئيسية / مقالات رأي / حتى لا تبقى تونس وليبيا وحيدتين

حتى لا تبقى تونس وليبيا وحيدتين

بقلم: أسامة رمضاني – النهار العربي

الشرق اليوم – ضم الوفد المرافق لرئيس الحكومة التونسي هشام المشيشي، في زيارته إلى ليبيا نهاية الأسبوع الماضي، شخصيات قلّما اجتمعت في المناسبة ذاتها في مهمة بالخارج. الزيارة عكست التطلعات الكبيرة من الجانب التونسي لتحقيق نتائج ملموسةً. وضم الوفد تسعة وزراء وخمسة مستشارين لرئيس الحكومة إضافة إلى محافظ البنك المركزي ورؤساء منظمات رجال الأعمال والنقابات والمزارعين ومديري شركات حكومية كبرى مثل “تونس الجوية” والكهرباء والأدوية والمئات من رجال الأعمال.

ولكن الزيارة كانت أيضاً مناسبة لتذكير التونسيين بالكثير من الاعتبارات والإشكاليات التي ما زالت تعيق تطور علاقاتهم بليبيا. 

اهتمام التونسيين بتعزيز العلاقات مع ليبيا ليس وليد الساعة. وليس وليدة مصادفة. على مدى عقود شكلت ليبيا شرياناً حيوياً لتونس من الناحية الاقتصادية، إذ كانت سوق الشغل هناك تمتص عشرات الآلاف من الشباب العاطلين من العمل في تونس. كما كانت ليبيا من أهم الشركاء التجاريين لتونس سواء على صعيد الأنشطة النظامية أو الموازية. وخسارة السوق الليبية خلال السنوات الماضية كبدت تونس المليارات من الدولارات وفق تقديرات المنظمات الدولية.

تغيّر الوضع في ليبيا بشكل كبير منذ قيام حكومة الوحدة الوطنية.

لم يكن المناخ المشحون بالعنف قبلها سانحاً للشروع بالبناء والتعاون مع الخارج. بل إن المواجهات العسكرية هناك انعكست سلباً على الوضع في تونس، إذ زادت من حالة الاستقطاب والتوتر بين الفرقاء السياسيين في البلاد، وجنح هؤلاء إلى الاصطفاف وراء هذا المعسكر أو ذاك على أساس اعتبارات أيديولوجية وسياسية، وكأنما ليبيا كانت بحاجة لأن تتمدد نزاعاتها الداخلية نحو الخارج وكأنما مشاحنات الطبقة السياسية التونسية كانت في حاجة إلى ساحة خارجية للمناكفات. 

حاولت الدبلوماسية التونسية في فترة ما المساعدة في البحث عن تسوية سلمية ولكن تواتر التدخلات الخارجية في ليبيا وتشرذم الوضع الداخلي في تونس لم يعطيا الزخم الكافي لمبادراتها.

موجة من التفاؤل سادت الكثير من الدوائر في تونس بعد انتخاب عبدالحميد الدبيبة، رئيساً للحكومة ومحمد المنفي، رئيساً للمجلس الرئاسي، في إطار اتفاق تسوية سلمية برعاية أممية من المفروض أن تؤدي إلى تنظيم انتخابات قبل نهاية السنة.

وقد كان الرئيس التونسي قيس سعيّد، أول رئيس أجنبي يزور ليبيا بعد تنصيب حكومتها الجديدة، كما كانت “الخطوط الجوية التونسية” أول شركة طيران خارجية تستأنف رحلاتها نحو الجارة الجنوبية.

ولكن التفاؤل بالأوضاع الجديدة في ليبيا يجب أن يأخذ في الاعتبار كون الحكومة الليبية الحالية حكومة انتقالية لا يزال من عمرها الافتراضي سبعة أشهر ولا يمنحها ذلك مهلة كافية لإعادة صياغة العلاقات التونسية الليبية كما يحتاجها كل من البلدين.

يبقى رغم ذلك ما أعلن عنه الدبيبة والمشيشي خلال الزيارة من رغبة في إزالة العوائق أمام انسياب المسافرين والأموال والبضائع وفض الإشكاليات التي تحيط بوضعية التونسيين والليبيين في كلا البلدين. خطوات أولية على الطريق الصحيح إذا وجد جانب منها على الأقل مكانه للتنفيذ. فالاعتبارات الاقتصادية في تونس زادت إلحاحاً في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من انكماش اقتصادي غير مسبوق. محافظ البنك المركزي مروان العباسي، كان رسم صورة قاتمة ولكنها واقعية عن هذا الوضع المتردي عندما نبه أعضاء البرلمان، قبل زيارته إلى ليبيا بأيام، إلى أن الشهرين المقبلين سيكونان شهرين حرجين، فإما أن تبدأ تونس خلالهما في إدخال الاصلاحات الاقتصادية التي تحتاجها أو أن ينزل تقييم أوضاعها من قبل مؤسسات التصنيف المالي إلى الدرك الأسفل، بما يغلق باب الاستثمارات والقروض الخارجية أمامها. بعض الخبراء كانوا لفتوا الانتباه في السابق إلى مخاطر سقوط البلاد في السيناريوهات اللبنانية أو اليونانية… وأضاف العباسي إليها السيناريو الفنزويلي بخاصة إنْ رفضت البلاد التعامل مع صندوق النقد الدولي واختارت نهج طباعة الأوراق النقدية لدفع أجور موظفيها.

التونسيون في سعيهم للعودة إلى ليبيا يجدون أنفسهم أمام مشهد محلي وإقليمي ودولي جديد لم يتعودوا عليه من قبل.

ليبيا تغيرت كثيراً عما كانت عليه قبل 2011. هناك جيل جديد ذاق مرارة الحرب والعنف والتهجير والتدخل الخارجي بكل أشكاله. جيل ما زال يخاف أن يفقد مكتسباته الهشة وطموحه المشروع إلى الاستقرار والسيادة والسلام. وليس التونسي أفضل منه في خوفه من المستقبل رغم مرور أكثر من عشر سنوات على بدء عملية الانتقال السياسي السلمي في بلاده.

التونسي يجد كثيرين قد سبقوه إلى ليبيا. إلى حد أن زيارة المشيشي ومن معه قد تكون جاءت متأخرة نوعاً ما بالمقارنة مع منافسي تونس من الشرق والغرب، الذين استغلوا مواقعهم الأقرب إلى ليبيا، بخاصة في إشعال الحرب وإخمادها. جاءوا متدافعين من مواقع قوة ليوقعوا العقود ويبنوا التفاهمات ويفتحوا السفارات.

اليوم، حتى وإن صمم التونسيون على دخول معترك المنافسة الاقتصادية الشرسة فهم سيدخلونها بصفوف مشتتة بالرغم من ميزات الجوار وروابطهم العريقة مع السوق الليبية وقدرتهم اليوم أكثر من غيرهم على فهم احتياجات الليبيين.

يدخل التونسيون معركة المنافسة من أجل العودة إلى السوق الليبية وقد ضاقت بهم السبل للتخلص من أزمة اقتصادية لم تعرف تونس مثلها منذ ستينات القرن الماضي. يدخلونها، رغم مستوى كوادرهم وخبرة شركاتهم وطموحاتهم الواسعة، وهم ليسوا في أفضل أحوالهم. يدخلونها وليس لهم رؤى واضحة بما فيه الكفاية للمستقبل الذي يريدونه. يدخلونها وهم يجرّون وراءهم وهناً في الحوكمة نتيجة عدم الاستقرار السياسي والتنازع على الصلاحيات وتأخر الإصلاح الاقتصادي واستشراء البيروقراطية المحبطة. 

البعد الإقليمي والدولي للمشهد التونسي – الليبي معقد ومتداخل من حيث تشعباته السياسية والعسكرية.

حاولت الدولة التونسية خلال السنوات الأخيرة البقاء بمنأى عن التخندق وراء المعسكرات والأحلاف الداخلية الليبية ونجحت في ذلك إلى حد كبير رغم الضغوط المختلفة التي واجهتها.

ولكن المشهد السياسي والعسكري في ليبيا وبخاصة في بعده الدولي يبقى رغم كل شيء عاملاً محدداً في معادلة الأمن القومي التونسي. فمواصلة تأمين الحدود التونسية – الليبية ما زالت من أبرز الضرورات على صعيد حماية تونس من مخاطر الإرهاب. وما زالت في الأذهان أحداث 2015 الدموية التي تورطت فيها عناصر تونسية “داعشية” تدرّبت في ليبيا وهجمة 2016 التي حاول فيها تنظيم “داعش” احتلال موطئ قدم على التراب التونسي انطلاقاً من مدينة بن قردان الحدودية.

استرجعت تونس المبادرة الأمنية إلى حد كبير منذ ذلك الوقت، بفضل صلابة مؤسستها العسكرية والأمنية ومساعدة الجيران والشركاء الأجانب. ولكن خطر الإرهاب ما زال جاثماً في الداخل والخارج مثلما تبرزه أحياناً تحركات فلول “داعش” و”القاعدة” على الحدود الغربية.

في ليبيا ذاتها، رغم الاستقرار النسبي للأوضاع، ما زالت العشرات من الميليشيات المسلحة والمجموعات المتطرفة خارج السيطرة الكاملة للدولة. يضاف إلى ذلك عنصر آخر تنبهت إليه الأمم المتحدة وهو المتعلق بوجود أكثر من عشرين ألف مرتزق ومقاتل أجنبي لن تستطيع السلطات الليبية التخلص منهم بسهولة وفي وقت قريب رغم سعيها المعلن لذلك.

بالنسبة إلى تونس، يبقى الحذر واجباً ومكلفاً. فالمخاطر نفسها التي تواجهها تشاد اليوم وواجهتها مالي قبلها كانت نتيجة عناصر مسلحة خرجت عن الطوق الليبي وعبرت الحدود وزعزعت استقرار الجيران.

وإذ تشارك تونس في مناورات بحرية مع الولايات المتحدة هذا الشهر وتستعد لاحتضان جانب من تدريبات “الأسد الأفريقي” (مع دول أخرى عدة بإشراف قيادة أفريكوم الأميركية) خلال حزيران (يونيو) المقبل فهي تعرف أن عليها الاستفادة في الوقت الحالي من المظلة الأمنية التي يوفرها الشركاء والأصدقاء من دون أن يزيغ بصرها عن أجنداتها الوطنية المحضة التي قد لا تتطابق دوماً مع استراتيجيات القوى العظمى في شمال أفريقيا. وهو توازن صعب ولكنه حيوي.

والأمل في أن يسترجع البلدان أنفاسهما يوماً ما بشكل يسمح لهما بالتعويل على طاقاتهما فقط من أجل ضمان أمنهما القومي المشترك.

توطيد العلاقات مع ليبيا هدف تدعمه أواصر التاريخ والجوار إضافة إلى اعتبارات الأمن والاقتصاد. والنجاح في تحقيقه يتطلب من الطبقة السياسية التونسية إرادة قوية على تجاوز ميلها نحو الصراعات الجانبية التي لا تغني ولا تسمن من جوع.

وعندما يصرح الدبيبة أن ليبيا “لن تترك تونس وحيدة”، فعلى التونسيين أن يمدوا يد العون أيضاً إلى ليبيا بما يستطيعون (من نصيحة وخبرة سنوات عشر صعبة) كي تنجح جارتهم الجنوبية في انتقالها السياسي واستحقاقها الانتخابي المقبل.

ذلك أن الوضع الصحيح هو أن لا تبقى، لا تونس ولا ليبيا وحيدتين.

شاهد أيضاً

أميركا إذ تتنكّر لتاريخها كرمى لعينيّ نتنياهو

بقلم: راغب جابر- النهار العربيالشرق اليوم– فيما تحارب إسرائيل على أكثر من جبهة، تزداد يوماً …