الرئيسية / مقالات رأي / Project Syndicate: مأساة تغير المناخ

Project Syndicate: مأساة تغير المناخ

الشرق اليوم – إن الأزمات المُتعددة التي يُواجهها كوكبنا مُلحة وشديدة، كما تنطوي القرارات الفردية والجماعية التي تُغذي تلك الأزمات على مخاطر عاطفية وأخلاقية عالية، لقد أودت جائحة مُميتة بحياة ثلاثة ملايين شخص، تشهد الأرض سادس انقراض جماعي لها، ومن المقرر أن يتفاقم المُشكل في المستقبل.
أعرب الرجل الأعمى تيريسياس في مسرحية “الملك أوديب” للكاتب سوفوكليس عن استيائه وأسفه قائلاً: “كم هو فظيع أن تتنبأ بما سيحدث في المستقبل، لأنه في النهاية، لا تكسبك المعرفة شيئاً”، فاستدعى الملك أوديب الأعمى للكشف عن مصدر الطاعون والكارثة البيئية التي تجتاح مدينة طيبة، لكن تيريسياس كان يعلم أن الملك سيرفض تصديق الحقيقة، يمكن لعلماء المناخ وعلماء الأوبئة اليوم فهم هذا الشعور.
مثل تيريسياس، يُدرك العلماء المُعاصرون إلى أين يتجه الكوكب؟ ولماذا؟ لم يكتشفوا ذلك عن طريق النبوءات، بل من خلال عدد لا يُحصى من التجارب المجهولة النتائج، والاختبارات العشوائية، ومراجعة الأقران الدقيقة، إذ إن أدلتهم غير قابلة للشك، وقد حظيت بإجماع ساحق، ومع ذلك، تبدو تكهناتهم العلمانية غير قادرة على التغلب على اللامبالاة المُتعمدة من قبل السياسيين أو الشعب، حيث إن معرفة الغيب لا تكسبهم شيئا، لأن قلة من الناس على استعداد للاستماع.
إذا كانت هناك طريقة يمكن للعلماء من خلالها جعل الناس وقادتهم يستمعون إلى آرائهم، فلا يكون الحل تغيير محتوى خطابهم بل طريقة الإلقاء، تم تصميم لغة العلم لتكون نزيهة، وعلى النقيض من ذلك، فإن الأزمات المُتعددة التي يُواجهها كوكبنا مُلحة وشديدة، كما تنطوي القرارات الفردية والجماعية التي تُغذي تلك الأزمات على مخاطر عاطفية وأخلاقية عالية، لقد أودت جائحة مُميتة بحياة ثلاثة ملايين شخص، تشهد الأرض سادس انقراض جماعي لها، ومن المقرر أن يتفاقم المُشكل في المستقبل.
نحن بحاجة إلى لغة للتعبير عن خطورة وتعقيد المأساة العالمية المُستمرة، وقد نجح الإغريق القدماء في خلق هذه اللغة، تتلخص مآسيهم في قصص الناس الذين يتعلمون بعد فوات الأوان (تُقاس عادة بالملي ثانية)، تُتابع شخصياتهم بعناد ما يعتقدون أنه صحيح دون فهم القوى التي يواجهونها: المصادفة، المصير، العادات، الحكومات، الطقس، وبحلول الوقت الذي يُدركون فيه هذه الأمور، يكونون قد ارتكبوا خطأً مُدمراً لا رجعة فيه عن غير قصد.
وعلى مدى قرون، كان يُنظر إلى المآسي اليونانية على أنها تعبيرات تشاؤمية عن مجتمع قدري، وهو ما يُوضح عدم جدوى مُحاربة القدر، ومع ذلك، قد يكون تأثير هذه القصص عكسيا وغير مُتوقع بالنسبة إلى اليونانيين، ونظرا إلى أنهم أظهروا للناس مدى محدودية وسرعة زوال قدرتهم على اتخاذ القرار بشأن مستقبلهم، كانت المآسي تثبط اللامبالاة. يمكن أن يُساهم إبراز مدى تدمير خداع الذات في تحسين الوعي والمعرفة، وقد يُساهم توفير اللغة لوصف التجارب الصعبة في تعزيز القدرة على اتخاذ القرارات.
يعتقد البعض أن مسرحية “الملك أوديب” قد عُرضت لأول مرة في ربيع عام 429 قبل الميلاد، أي بين اندلاع الموجتين الأولى والثانية من وباء الطاعون الذي أودى بحياة ما يقرب من ثلث سكان أثينا، وبالنسبة إلى مجتمع كان يعالج الصدمات المُشتركة ويتساءل عن مدى حتمية الخسائر، من المحتمل أن تكون قصة الزعيم المُتعجرف والتجاهل المُتعمد قد أثارت ضجة كبيرة.
ومع ذلك لم يكن الأثينيون القدماء وحدهم الذين ألهمتهم المآسي اليونانية، ففي السنوات العشر الماضية، قمتُ بإخراج أكثر من 1000 عرض مسرحي للكاتب سوفوكليس ومعاصريه في أماكن تبدو بعيدة الاحتمال، مثل ملاجئ المُشردين والمستشفيات والسجون والقواعد العسكرية ومراكز إعادة التأهيل ودور العجزة والحدائق العامة في جميع أنحاء العالم.
في مناقشات ما بعد الأداء، تمكن بعض المشاهدين أخيرا من التعبير عن التحديات التي واجهوها والتضحيات التي قدموها، وعلى سبيل المثال، بعد عرض مشاهد من مسرحيتي “أياكس وفيلوكتيتس” للكاتب سوفوكليس- إحدى أقدم المآسي التي وقعت خلال حرب طروادة- أمام جمهور يتألف من 400 جندي من مشاة البحرية الأميركية، تمكن هؤلاء المحاربون المعاصرون الرواقيون أخيرا من فتح قلوبهم والتعبير عن الصراعات الأخلاقية والعاطفية والروحية التي مرّوا بها عقب عودتهم من الحرب.
إن التحدث بصوت عالٍ عن شيء كان يصعب البوح به في السابق يمكن أن يكون مصدر ارتياح في حد ذاته، لكن تسمية مشكلة تُعد أيضا الخطوة الأولى في معالجتها، وقد أخبرني العديد من المُشاهدين لاحقا أنهم تمكنوا من تغيير حياتهم الخاصة، على سبيل المثال، من خلال المشاركة في برنامج إعادة تأهيل مدمني المخدرات.
مثلما يمكن للغة المأساة أن تساعد في إحداث تغيير شخصي، يمكنها أيضا تحفيز التغيير المنهجي، قالت الناشطة السويدية غريتا ثونبرغ في خطاب مُوجه لقادة العالم في قمة الأمم المتحدة للعمل المناخي لعام 2019، بلهجة عاطفية: “إن الناس يُعانون… الناس يموتون، إن أنظمة بيئية بأكملها تنهار. نحن نواجه مخاطر الانقراض الجماعي، وجُل ما يمكنكم التحدث عنه هو المال والقصص الخُرافية حول النمو الاقتصادي الأبدي. كيف تجرؤون!”.
كان يُمكن أن يكون هذا خطابا في مأساة يونانية، تحذيرا من رجل يائس وغاضب؛ شخص يعرف، كما نعلم جميعا، أن الكارثة قادمة، وليس لدينا سوى القليل من الوقت لتجنبها.
تُدرك ثونبرغ والعديد من زملائها الناشطين في مجال المناخ أن لغة المأساة هي الطريقة الوحيدة للتعبير عن الكارثة التي نواجهها، ومع ذلك، كما تعلم ثونبرغ من تجربتها الشخصية، من السهل استبعاد الشباب باعتبارهم حساسين للغاية ومُبالغين في ردود أفعالهم، لهذا السبب يجب على البالغين- وخاصة العلماء وقادة العالم- الانضمام بشكل عاجل إلى صفوف الشباب واستخدام لغة المأساة في التعبير عن آرائهم.
قد يعتقد العلماء أن أي شيء آخر بخلاف البيانات الدقيقة والمدروسة من شأنه أن يُقوض شرعية النتائج التي توصلوا إليها، لكن البشر كائنات عاطفية تواجه أزمة وجودية، إن لغة المأساة هي أفضل فرصة لنا- وربما آخر فرصة- لفتح أعين العالم قبل فوات الأوان.

شاهد أيضاً

إنصاف «الأونروا»

بقلم: وليد عثمان – صحيفة الخليج الشرق اليوم- لم تكن براءة وكالة الأمم المتحدة لغوث …