الرئيسية / مقالات رأي / في سيكولوجيا الدين والحداثة.. أزمة المقدّس والمدنّس

في سيكولوجيا الدين والحداثة.. أزمة المقدّس والمدنّس

بقلم: حسن إسميك – النهار العربي

الشرق اليوم- انشغلنا لمّا كنا أطفالاً قبل المدرسة باللعب، كان اللعب وقتها محور حياتنا، وكان أيضاً “الجدّ” الوحيد فيها، ثم جاءت المدرسة لتسرق جزءاً كبيراً من وقت اللعب وتضعنا أمام أولى المواقف الجدية الحقيقية في الحياة، حيث الواجبات المدرسية، والثواب والعقاب، وأتباع النظام والسعي نحو النجاح لتفادي الرسوب الذي كان أكبر عار يمكن أن يتخيله الطفل وهو في المرحلة الابتدائية. وفي هذه المرحلة، التي تنتهي ببداية المراهقة، تنشأ شخصيتنا بعيداً عن إدراكنا وإرادتنا، فنكون خاضعين لتربية المنزل ونظام التعليم الوطني، وموجَهين لتحقيق الأهداف التي يريدها الآخرون منّا، قبل أن يتفتح وعينا على ذواتنا وشخصياتنا المستقلة.

ومع دخول الإنسان منّا فترة المراهقة تبدأ مرحلة الوعي بالذات، فيميل المراهق للانعزال عن الآخرين والانكفاء على ذاته في محاولة إعادة تشكيل هويته من جديد، ولكن بوعي وإدراك شديدي الحماس رغم عدم امتلاك الخبرات والتعرض للمواقف الكافية لبناء الشخصية. وغالباً ما يتسم سلوك المراهق في هذه الفترة بالتمرد ومقاومة الرأي السائد وسلطة الكبار، وكأنه يحاول بشكل لا واع استرداد ما يظن أنه سُلب منه في صغره. ورغم أنها مرحلة معاناة بالنسبة للأهل، فإنها تبقى ضرورية ومهمة لتصنع لدى الفرد الشعور بالاستقلالية والاستعداد لتحمل المسؤولية وخوض غمار الحياة مسلحاً بالمهارات والقدرات المطلوبة.

تنتهي المراهقة فيستقر تفكير الإنسان ويستطيع التعامل مع المجردات والمفاهيم والأفكار الكلية والموضوعات الكبرى في الوجود، غير أن هذا الاستقرار ليس سوى قشرة ظاهرية تخفي داخلها صراعات فكرية جديدة ما كانت تخطر ببال الإنسان من قبل، وذلك عندما يكتشف الفرد أن نفسه تنطوي على دافعين متعارضين اثنين، أولهما فطري غريزي يبحث عن تلبية الرغبات وإشباع الحاجات والميل نحو المتعة، والثاني مكتسب يحركه الإيمان بالمقدس والماورائيات التي تشرّبها في طفولته، فتصبح قيم الحلال والحرام، بالإضافة إلى عادات وتقاليد المجتمع، معياراً رئيساً ورادعاً داخلياً يفرض نفسه بقوة في توجيه إرادة الفرد والحد من الاستجابة لرغباته وحاجاته.

من الطبيعي أن لا يكون الصراع بين الدافعين عرضياً ومؤقتاً، بل يستمر عدة سنوات بعد المراهقة، وقد يبقى في حالات كثيرة حتى منتصف الثلاثينيات من العمر، ويتسم غالباً بعدم القدرة على حسم معركة الدوافع هذه، والتي تبقى سجالاً ينتصر فيها الإيمان بالمقدس مرة، وقد تنتصر فيها الرغبات الجامحة عدة مرات، غير أن انتصار الرغبات هذا كثيراً ما يترافق مع الشعور بالندم المدفوع بالخوف من العقاب والعذاب، والذي ينعكس على سلوك الفرد بميله نحو جلد الذات ونبذ الواقع والإحساس الدائم والمركب بالخطيئة، ثم قد يتطور في حالات كثيرة إلى نوع من تحقير الشخصية والتقليل من شأنها، فيتهم الفرد نفسه بضعف الإرادة وسوء الخلق، ويتوقع دائماً استحقاق غضب الله وعذابه، وهو يستعيد في كل مرة تنشئة الرعب والترهيب التي نشأ عليها، والتي ساهم في نشرها رجال دين ودعاة متشددون، ممن يعمدون إلى إشاعة الخوف من الله ويتناسون الدعوة إلى حبه، ويحاولون التقليل من شأن الحياة مقابل التلويح دوماً بالموت وعذاب ما بعد الموت، فتراهم إذا ما تحدثوا عن الجحيم والعقاب فإنهم يطنبون في الشرح والتفصيل والتهويل، أما إذا حدثهم الآخرون برحمة الله وغفرانه فيميلون إلى الإيجاز والاختصار، وكأن غضب الله وعذابه مقدمان على رحمته وكرمه وغفرانه!

وغالباً ما ينتهي المطاف بأولئك المستسلمين للندم وعذابات الخوف والتقليل من شأن الذات إلى الانقلاب على حياتهم والسخط على أنفسهم وعلى الآخرين، والتحول الجارف نحو التعصب الأعمى، واحتقار قيمة الحياة الدنيا والوجود الإنساني، سواء في ذواتهم أو ذوات الآخرين، فيصبحون كمن سبقهم؛ دعاة للتعصب والموت وكراهية الحياة واستصغارها، ويخالفون عن جهل إرادة الله وغايته في الخلق، وينكصون عن تحقيق مفهوم الخلافة كما أراده الله سبحانه، فلا يعتبرون لوجودهم على الأرض أي اعتبار أو قيمة، وهي التي خصّها الله بالذكر في قوله سبحانه: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)، فينحرفون عن سنة عظيمة من سنن الخلق والوجود، وهم يحسبون أنهم بذلك يحسنون صُنعاً.

وعموماً.. ليس الانتهاء إلى جلد الذات وتحقيرها هو القدر الذي لا مناص منه والنتيجة النهائية التي لا يمكن تجنبها، بل ربما تمثل مرحلة الصراع هذه انقلاباً أعلى وفرصة كبرى ليقظة الأنا المتعالية أو العقل والتفكير النقدي، ومشروعاً جاداً كي يعيد الفرد ترتيب رؤيته للحياة وفلسفتها، فيخوض غمار التفكير بالمقدسات والإيمانيات مسلحاً بإعمال العقل وأدواته، وينبذ عنه سلطة الغير وتأثيرهم، ليعيد استقبال التجربة الإيمانية على أسس ذاتية بعيدة عن اللاوعي الجمعي، فتتشكل دوافع سلوكه وضوابطها من قيمه ومبادئه الذاتية التي يكون فيها “العقل” هو المنهج والأساس في فهم وتفسير “النقل”، وتصبح “الحكمة” لديه فضاءً رحباً لتأويل “الشريعة” وفهم مقاصدها على الوجه الذي ينبغي أن تكون عليه، وهذا ما أوضحه ابن رُشْدٍ، فيلسوفُ العرب في أوروبا (الأندلس)، ليقطف خلاصة هذه العلاقة بين الفلسفة والدّين (أو الحكمة والشّريعة)، ويصوغ مبدأ “وحدة الحقيقة” وثُنائيّة المنهج المؤدِّي إليها، فنجدُه يَحتَجُّ بالعقل والنَّقْلِ مدافعًا عن ضرورة الفلسفة لإغناء الإيمان، وضرورة الإيمان لحماية الإنسان من الزّيْغِ والضّلال، لينتهيَ إلى أنَّ الحقَّ غايةُ كِلا الطّريقَيْن، لأنّ الحقَّ لا يُضادُّ الحقَّ بل يوافقه ويؤيّده، وعليه فالحكمةُ “صِنْوُ الشّريعة وأختُها الرّضيعة” بحسب تعبير الفيلسوف أبي الوليد.

وإذا ما استطاع المرء الوصول إلى هذا المستوى من فهم العقيدة والوجود، فإنه يعيد تنصيب ميزان الفصل بين الحلال والحرام، وبين المقدس والمدنس، على هدي واضح وفهم عميق لقيمة ووجوده ومكانته في مراتب الخلق والوجود، وبناء على الرؤية الكلية والشاملة لمعنى الحياة والكون وأبدية الروح وطبيعتها الإلهية، فيتجاوز بذلك قشور الإيمان ومظاهره، ويغوص في أعماق “اليقينيات الكونية” مسلحاً بوعي إيماني-عقلاني، يوفق بين الحدس والحجة، ويمزج الوجدان بالبرهان، لتكون خلاصة كل ذلك عنده رجاحة الفكر وسلامة القلب.

يمثل الموقفان السابقان، موقف من يقوده الشك السلبي إلى التعصب الأعمى والتدين الأجوف، والآخر الذي يتخذ من الشك الايجابي جسراً يصله بعالم العقل والتنوير، نموذجاً إرشادياً للفكر، ليس على المستوى الفردي فحسب، بل على المستوى العربي ككل. فلقد عكست اتجاهات فكرنا العربي الحديث والمعاصر، منذ إرهاصته الأولى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وصولاً إلى يومنا هذا، موقفنا النقدي من إشكالية المقدس والمدنس، وتمخض عنها بالمجمل اتجاهان اثنان، التزم أحدهما الجانب العقلاني حين استطاع رواده ومناصريه، بدءاً من الطهطاوي والكواكبي ومحمد عبده … والقائمة تطول، إعادة إحياء التراث من منطلق العقل والعصر، فقدّموا فكراً واعداً يجمع بين الأصالة والمعاصرة، قوامه المدنية والتسامح وقبول الآخر، مقابل الاتجاه الثاني الذي سحب التراث إلى الحاضر كما هو، متجاهلاً روح الأصالة ومضيّعاً شروط المعاصرة، فلم يفهم التراث في بعده التاريخي الفذ، ولم يدرك الحداثة في تعينها الحاضر المختلف. ورغم جهود العقلانيين والتنويريين العرب، إلا أنه وللأسف الشديد، كان الانتصار في الغالب للفريق الثاني الذي تغذيه اليوم جماعات التعصب والتطرف الديني التي عجزت عن تحديث الفكر الإسلامي، فاختارت الانغلاق والسير عكس تيار الحياة وتطورها المبدع.

من الجدير الإشارة إليه في هذا السياق، أن أفلاطون قد ناقش هذا الصراع في بعده الإنساني العام عبر تحليل البنية الذهنية للكائن العاقل، فوضّح بشكل دقيق كيف أن السيكولوجيا الاجتماعية والسيكولوجيا الفردية تتضمن إحداهما الأخرى، فعقل الفرد عقل مُصغر عن عقل الجماعة، وكما أن الفرد يسعى دائماً لتحقيق الانسجام والتناغم على المستوى الشخصي، كذلك فإن عقل الجماعة يسعى دائماً لتحقيق التوازن والعدالة على المستوى العام، وذلك بناء على أن عقل الجماعة ليس شبيهاً بعقل الفرد فحسب، بل ومن صنعه أيضاً. وفي اعتقادي فإن علاقة الصراع الجدلية التي تربط العقل الفردي والعقل الجمعي العربي تماثل تماماً الرؤية الأفلاطونية هذه. وبالرغم من المستويات المتقدمة التي حققتها تكنولوجيا العالم المعاصر، فما زال الإنسان العربي وللأسف يعيش أسيراً لذهنية ثنائية البنية، تتمثل من جهة أولى بجملة الأساطير والخرفات التي أُضفيت عليها صفة طوطمية مقدسة، أما جهتها الثانية فترتبط بحالة من الواقعية العملية “المدنسة”، والتي تتطلع للتحرر من الأولى والأخذ بناصية العلم والمشاركة في صنع مستقبل الإنسانية وقيمها.

والسؤال الذي يحتاج الى المزيد من البحث والتقصي من وجهة نظرنا هو: هل ما زال العقل العربي يمثل استمراراً لقصة أبي نواس الذي يجمع المقدس والمدنس على مستوى واحد، ويجهد في تنظيم شؤون الحياة لتحقيق التوازن والتوفيق بينهما؟

لإيضاح المزيد حول هذا الأمر.. سيكون لنا مع أبي نواس وقفة أخرى ومقال جديد..   

شاهد أيضاً

إنصاف «الأونروا»

بقلم: وليد عثمان – صحيفة الخليج الشرق اليوم- لم تكن براءة وكالة الأمم المتحدة لغوث …