الرئيسية / مقالات رأي / العلاقات الأمريكية – التركية ليست على ما يرام

العلاقات الأمريكية – التركية ليست على ما يرام

بقلم: حازم الغبرا – العرب اللندنية

الشرق اليوم– تصدرت الأزمة بين واشنطن وأنقرة وسائل الإعلام في الأشهر الأخيرة خصوصا بعد الخروج التركي عن بيت الطاعة الأميركي الذي تلا نشر صواريخ إس – 400 الروسية في تحدٍ واضح وصريح لشركائها في حلف الناتو. ومع أن مشكلة الصواريخ الروسية تعد من أبرز التطورات السلبية في العلاقات الأميركية – التركية، إلا أن التدهور ليس حديثا ولا يقتصر على جدال مستجد حول العتاد الحربي.

عضوية أنقرة في حلف الناتو عام 1952 كانت ضرورة آنية أكثر مما كانت خيارا أيديولوجيا أو سياسيا، حيث دخلت تركيا الناتو بغية حماية أراضيها من اجتياح وشيك بعد أن هدّد الرئيس السوفييتي جوزيف ستالين باحتلال المضائق المائية التركية والطرف الشرقي من تركيا. وقامت الولايات المتحدة حينها بنشر صواريخ “جوبيتر” في الأراضي التركية كجزء من المظلة الدفاعية ضد الصواريخ النووية الحامية لدول الحلف.

لكن الأزمة الأولى لم تتأخر كثيرا حيث قامت الولايات المتحدة بسحب صواريخ “جوبيتر” عام 1962 دون استشارة تركيا بُعيد الاتفاق بين الرئيسين الأميركي جون كندي والسوفييتي نيكيتا خروتشوف، والذي حلت بموجبه أزمة الصواريخ الكوبية. هذه الخطوة أغضبت تركيا التي شعرت أنها عضو من الدرجة الثانية في حلف الناتو يمكن الاستغناء عنه.

وبعد ما يقارب العشر سنوات أتت الأزمة الثانية والأكبر عندما اجتاحت القوات التركية جزءا من جزيرة قبرص بحجة حماية مواطنين القبارصة من أصول تركية من ميليشيات يونانية على الرغم من تحذيرات واشنطن شديدة اللهجة ضد أي عمل عسكري تركي في قبرص. وأدى هذا الاجتياح إلى عقوبات أميركية حظرت بيع الأسلحة إلى تركيا استمر حتى عام 1978 عندما هددت تركيا بمنع الولايات المتحدة من استخدام قاعدة “إنجرليك” العسكرية إن لم ترفع العقوبات.

وشكلت حرب الخليج عام 1991 نقطة تحول أخرى في العلاقة الأميركية – التركية. فمن جهة أدت الحرب إلى خسارة تركيا البلايين من الدولارات بعد أن فقدت قدرتها على المتاجرة بالنفط العراقي، ومن جهة أخرى أدت منطقة حظر الطيران التي فرضتها الولايات المتحدة في شمال العراق إلى توفير الحماية لحزب العمال الكردستاني المعادي لتركيا والذي استطاع الاستفادة من المظلة الجوية الأميركية لتوسيع نفوذه ونشاطاته في المنطقة.

وفي شهر أكتوبر من عام 1992، وبينما كانت القوات التركية تستعد لعملية عسكرية عابرة للحدود ضد القوات الكردية في العراق، قامت حاملة طائرات أميركية تقوم بمناورات في المنطقة بضرب مدمرة تركية بصاروخين مما أدى إلى مقتل وجرح العشرات من البحارة الأتراك. ومع أن الولايات المتحدة صرحت أن الاستهداف حدث بالخطأ، إلا أن تركيا رفضت هذا التفسير حيث أن الصواريخ المستخدمة كانت صواريخ ذكية تتطلب أن يجري تأكيد الهدف لستّ مرات قبل إطلاقها. وبدت أنقرة مقتنعة أن ضرب مدمرتها البحرية لم يكن إلا رسالة شديدة اللهجة من واشنطن.

وشهدت بداية القرن الحادي والعشرين تأججا للخلاف بين عضوي حلف الناتو. ففي أوائل عام 2003 وقبيل الاجتياح الأميركي للعراق قام الطرف التركي برفض الطلب الأميركي لاستخدام الأراضي والقواعد التركية في الهجوم على العراق مما أغضب الرئيس الأميركي جورج بوش الابن حينها. وذكر بوش صراحة في كتابه الذي خطه بعد خروجه من البيت الأبيض أنه “شعر بخيبة أمل كبيرة عندما رفضت تركيا، الحليفة في الناتو، إحدى أهم الطلبات الأميركية حينها”.

وبعد أشهر قليلة، وفي شهر يوليو 2003، قامت القوات الأميركية العاملة في العراق باعتقال 18 عنصرا من القوات الخاصة التركية في مدينة السليمانية خلال محاولتهم اغتيال حاكم كركوك المنتخب حديثا. هذه الحادثة، بالإضافة إلى اتهام واشنطن لأنقرة بدعم جماعات سنيّة متطرفة في العراق، عمّقت الخلاف بين البلدين ودفع البيت الأبيض إلى الاعتماد على القيادة المركزية في وزارة الدفاع الأميركية في تشكيل السياسة الخارجية تجاه تركيا عوضا عن وزارة الخارجية وكأن تركيا أصبحت عدوة أو معضلة أمنية بالنسبة إلى الولايات المتحدة.

وبالرغم من خلوّ العلاقات الأميركية – التركية من الأحداث البارزة خلال الولاية الأولى من حكم الرئيس باراك أوباما، إلا أن اشتعال الأزمة السورية عام 2011 أدى إلى المزيد من التعقيدات. والمشكلة الأكبر كانت دعم وزارة الدفاع الأميركية للقوات الكردية، التي تعتبرها أنقرة مجموعات إرهابية، في المنطقة التي تحد تركيا من الشمال الشرقي السوري.

وفي الوقت الذي كانت تركيا فيه تلتمس من واشنطن تغيير سياستها نحو وحدات الحماية الشعبية الكردية، قام الجيش الأميركي، وبشكل مفاجئ، بسحب منظومة صواريخ “باتريوت” الدفاعية من منطقة الحدود التركية – السورية مما جعل هذه الحدود غير محمية من الهجمات الصاروخية.

وما زاد الطين بلة التجاهل الأميركي المستمر لطلب تركيا شراء منظومة صواريخ “باتريوت” الخاصة بها. ولم يأت الرد الأميركي متأخرا بعد سنة ونصف من الطلب فقط، بل كان سلبيا أيضا، حيث رفضت الولايات المتحدة تزويد الأتراك بتقنيات أنظمة التشغيل التي تسمح لهم بالتحكم بهذه الصواريخ الذين يودون شراءها. ويجمع المحللون على أن هذا الرفض الأميركي لتزويد تركيا بصواريخ “باتريوت” هو ما دفعها إلى البحث عن البديل الذي لم تتردد روسيا عن تقديمه عبر صواريخ إس – 400.

وعلى الرغم من خسارة تركيا لطائرات أف – 35 بسبب شرائها الصواريخ الروسية، يبدو أن أنقرة اكتشفت أنها تستطيع فعلا تحدي سياسات الولايات المتحدة بعد وصول الدفعة الأولى من الصواريخ في شهر يوليو 2019، فقامت بشن عملية “نبع السلام” في شهر أكتوبر من العام ذاته ضد القوات الكردية المتحالفة مع الولايات المتحدة في سوريا. وأتى الرد الأميركي على العملية التركية خجولا، واقتصر على نشر القوات الأميركية في مدينة منبج والسيطرة عليها لمنع الأتراك من دخولها ثم تسليم المدينة للقوات الروسية العاملة في سوريا لاحقا.

كما بدأ الاستخدام التركي المتكرر لقوات غير نظامية سورية في أذربيجان وليبيا والعراق والشمال السوري يؤرق الولايات المتحدة، حيث تتخوف واشنطن أن تتحول هذه المجموعات المسلحة إلى جماعات إرهابية جديدة تنشط في المنطقة.

ومن المتوقع أن ترفع المنافسة بين تركيا واليونان حول حقوق استثمار النفط والغاز في قاع البحر المتوسط من درجة التوتر بين تركيا وحلفائها في الناتو، حيث بدأت تركيا فعليا بالتنقيب عن النفط في مناطق حدودية متنازع عليها. وقد أثار إرسال قطع بحرية عسكرية لحماية سفن التنقيب مخاوف من أن تتحول هذه الأزمة السياسية الاقتصادية إلى مواجهة عسكرية.

فشل العقوبات الأميركية في ردع أنقرة عن قراراتها المتحدية لإرادة واشنطن وضع تركيا في منطقة رمادية في المجتمع الدولي. فمن جهة تتموضع الدولة التركية على جبهة حلف الناتو الشرقية وتستفيد من ميزات شتى يقدمها الحلف، كما تستضيف قاعدة عسكرية كبرى وأساسية بالنسبة إلى الوجود الأميركي في الشرق الأوسط، وفي الوقت ذاته تحاول تركيا التقرب من روسيا والصين للتحوّط من تغيرات محتملة في السياسة الأميركية تجاهها بشكل خاص أو في الدور الأميركي في الشرق الأوسط بشكل عام.

فبالرغم من العلاقة التاريخية السيئة بين تركيا وروسيا ووجود نزاعات حدودية مستمرة بين الدولتين، إلا أن مجالات التعاون بينهما ازدادت في العقد الماضي لتشمل مساعدة روسية في بناء مفاعلات نووية في تركيا، وتنسيقا أمنيا مباشرا في سوريا، والتعاون العسكري الذي توج بصفقة إس – 400. لكن، وفي الآن ذاته، يلوح في الأفق نزاع روسي – تركي على ثروات حوض المتوسط على الحدود البحرية التركية والتي تحاول روسيا السيطرة على حصة منها عبر وجودها في سوريا.

أما لجهة الصين، فالتعاون اقتصادي أولا، حيث تضاعفت التجارة بين البلدين في العقد الماضي ودخلت تركيا في مبادرة “الحزام والطريق” التجارية. وفي المجال الأمني تؤكد المعطيات أن تركيا تساعد الصين على محاربة مسلمي الإيغور حتى من هم من أصول تركية. وقد قامت الحكومة التركية بإعادة لاجئين سياسيين من الإيغور إلى الصين مباشرة أو نفيهم إلى دول أخرى لديها اتفاقات تسليم مطلوبين مع الصين على الرغم من التصريحات الإعلامية التركية المنددة بالتصرفات الصينية ضد المسلمين من الإيغور.

من الواضح أن الثقة أصبحت مفقودة بين الطرفين الأميركي والتركي دون بوادر انفراج في الأفق. فتركيا لا تبدو مهتمة بإرضاء أميركا، وترى في المنافسة المتعاظمة بين أميركا وأوروبا من جهة والصين وروسيا من الجهة الثانية فرصة للحصول على فوائد اقتصادية وسياسية من جميع الأطراف المتنازعة، بينما لا يزال الطرف الأميركي ينتظر من أنقرة موقفا واضحا يتوافق مع إستراتيجيته وإستراتيجية حلف الناتو في المنطقة.

إجبار تركيا على تغيير مواقفها قد يتطلب ضغوطا تفوق العقوبات العسكرية والاقتصادية، إلا أن هناك تخوّفا أميركيا واضحا من أن يؤدي الضغط المتعاظم إلى ردة فعل تركية قد تخرب العلاقة إلى حدّ قد يستحيل إصلاحها.

شاهد أيضاً

بأية حال تعود الانتخابات في أمريكا!

بقلم: سمير التقي – النهار العربي الشرق اليوم- كل ثلاثة او أربعة عقود، وفي سياق …