الرئيسية / مقالات رأي / نظام سياسي جديد

نظام سياسي جديد

بقلم: عبد الاله بلقزيز – صحيفة الخليج

الشرق اليوم- ما كان قد هز توازنات العالم في الحرب والاقتصاد والتجارة والتكنولوجيا والمال، والقيم الاجتماعية والثقافية، وبدل في علاقاتها وظواهرها تبديلاً؛ بل أنتج بُنى وصوراً منها جديدة، أتى بالتبديل عينه على ميدان السياسة والسلطة وظواهرهما، فغيّر منها إلى الحد الذي بدتا فيه، أحياناً، وكأنهما تشهدان على هندسة جديدة لهما غير مسبوقة، وتقطعان  بالتالي  مع كل ما كان مألوفاً في مباني السياسة (والسلطة) وفي الديناميات الاجتماعية التي تصنعها. ولقد كان فضاء هذا التغيير الذي طرأ على المجال السياسي: علاقات وقوى وديناميات، هو عالم الغرب ودوله والحياة السياسية فيه.

لزمن مديد، كانت السياسة والسلطة صناعة حزبية بامتياز، أو قُل ظاهرة تنشأ من منافسة القوى الحزبية بعضها بعضاً داخل مجال سياسي محكوم بقواعد التنافس السلمي على السلطة، ومن طريق توسل الأدوات والأطر التي يقررها النظام الديمقراطي، من اقتراع وتمثيل وحكم ومعارضة وتداول على أجهزة القرار. منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر على الأقل، أصبح مألوفاً في الديمقراطيات الغربية أن يلتئم الفاعلون السياسيون في أحزاب، وأن يشاركوا في الحياة السياسية من خلالها وبواسطتها. ولم يكن ممكناً  لوقت طويل  أن يتخيل المرء سبيلاً أخرى إلى السياسة غير السبيل الحزبية، هذه التي ركبتها أحزاب كبرى احتكرت التمثيل السياسي في بلدانها (الحزبان الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة الأمريكية، مثلاً، أو حزبا “المحافظين” و”العمال” في بريطانيا، أو الديجوليين والاشتراكيين  لفترة طويلة  في فرنسا)، فكان أن دفعت غيرها  في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا  إلى محاولة النسج على منوالها.

ظلت السلطة في بلدان الغرب، تصنع  في مؤسسات ثلاث: الرئاسة والحكومة والبرلمان  من معادلة القوة (بالمعنى التمثيلي)، فكان الحزب الفائز في المنافسة (الرئاسية أو التشريعية) هو من يدير السلطة لولاية دستورية. وحين لا يحتاز الأغلبية المريحة (في البرلمان كما في البلديات)، يُبرم تحالفات سياسية مع أحزاب أخرى يتقاطع معها في البرنامج أو المصالح لكي يتحصل من خلال ذلك على الأغلبية التي تخول له تشكيل الحكومة أو غيرها من السلطات الإقليمية والمحلية. في هذا النموذج من السلطة الخارجة من رحم الاقتراع، كانت كلمة السر هي التمثيل (تمثيل المواطنين). وهذا لم يكن يدرك ويتحصل إلا بالإقناع: إقناع الناخبين بوجاهة البرنامج الاجتماعي والاقتصادي المعروض عليهم. أما المؤسسة التي تعود إليها صناعة ذلك البرنامج، وإقناع الناخبين به، والمنافحة عنه فهي الحزب.

اليوم، تتغير الصورة إلى حد بعيد، وتؤذن بتغيير مشهد المجال السياسي في دول الغرب. لم تعد الأحزاب والقوى السياسية  في كثير من بلدانه  هي الفاعل السياسي الرئيسي (وهي كانت  إلى حدود بدايات عقد التسعينات  الفاعل السياسي الوحيد)، وإنما زاحمتها على هذا الدور (كما تفوقت عليها أحياناً) قوى أخرى غير حزبية؛ قوى المال والأعمال على نحو خاص.

وهذه القوى التي تتحكم في رقاب الاقتصاد منذ بداية الليبرالية المتوحشة في الثمانينات، ومنذ هيمنة الرأسمال المالي على الرأسمال الصناعي  وجدت لنفسها حاجة إلى الانتقال من احتكار الثروة (الاقتصاد والمال والأعمال) إلى احتكار السلطة. ولقد كان مدخلها إلى ذلك الإمساك بالإعلام وتسخيره لأغراضها السياسية، فيما نجح بعضها في شراء القرار الحزبي لمصلحته وتسخيره بالكامل. ومنذ نجح “سياسي” طارئ على السياسة  مثل بيرلوسكوني (في إيطاليا) في الوصول إلى السلطة على صهوة المال والإعلام، واختراق المعادلات السياسية القائمة وإبطال مفعولها، بات مألوفاً أن ينسج على منواله في بلدان أخرى مثل الولايات المتحدة وفرنسا، وما خفي أعظم!

إن المشكلات الهائلة التي ولدها عهد بيرلوسكوني في إيطاليا، على صعيد السياسات العامة، كما على صعيد العلاقات بين مؤسسات الدولة الثلاث (البرلمان والحكومة والرئاسة)، وما أنتجته من أزمات وصدام مع المجتمع السياسي وقسم عريض من الرأي العام ومع القضاء، لا يعادلها، في الحدة والفداحة، سوى تلك التي ولدها في الولايات المتحدة عهد دونالد ترامب وسياساته التي قادت المجتمع إلى انقسام لا سابق له، وإلى احتقان عام قد لا تخرج منه البلاد سريعاً.

وما من غرابة في هذه المآلات السياسية المأساوية، فالرجلان (برليسكوني وترامب) من محتد اجتماعي واحد، وهما برّانيان عن السياسة ومجتمعها ومؤسساتها، لذلك ما كان يمكنهما غير تغريم بلديهما بتبعات عهد “سياسي” أتى من خارج بيئة السياسة، ممتطياً صهوة المال والأعمال والإعلام!

شاهد أيضاً

أحلام مقتدى الصّدر وأوهام مناصريه

بقلم: فاروق يوسف- النهار العربيالشرق اليوم– عندما يُشفى العراقيون من عقدة اسمها مقتدى الصدر يكون …