الرئيسية / مقالات رأي / لماذا أصبح القتل الجماعي ظاهرة أميركية؟

لماذا أصبح القتل الجماعي ظاهرة أميركية؟

بقلم: هشام ملحم – النهار العربي

الشرق اليوم- شهدت الولايات المتحدة خلال أسبوع واحد حادثي قتل جماعي، أديا الى مصرع 18 مدنياً، برصاص شابين. يوم الاثنين قام الشاب أحمد العليوي العيسى، البالغ من العمر 21 سنة بدخول أحد متاجر مدينة بولدر في ولاية كولورادو، وخلال أقل من ساعة قتلَ 10 رجال ونساء تراوح أعمارهم بين 20 و65 سنة، قبل إلقاء القبض عليه بعد اصابته بجروح في ساقه. عائلة العليوي هاجرت الى الولايات المتحدة من سوريا في 2002 حين كان أحمد في الثالثة من عمره. شقيقه لمّح إلى أن أحمد يعاني من مشكلات نفسية مثل”جنون الارتياب”.يوم الثلثاء الماضي، قام الشاب روبرت لونغ البالغ من العمر 21 سنة باقتحام ثلاثة نوادٍ للصحة والتدليك في محيط مدينة أتلانتا في ولاية جورجيا وقتل ثمانية أشخاص، ستة منهم نساء من أصل آسيوي. هذه الجريمة زادت من مشاعر الخوف في أوساط الأميركيين – الآسيويين الذين تعرض المئات منهم لمختلف انواع الاعتداءات من قبل مواطنين عنصريين حملوهم مسؤولية تفشي فيروس كورونا خلال العام الماضي حين كان الرئيس السابق دونالد ترامب يسمي الجائحة “الفيروس الصيني”. في اعتراف أوّلي قال روبرت لونغ إنه يعاني من هوس جنسي. ومرة اخرى شاهد الملايين من الأميركيين مشاهد مروعة لعائلات الضحايا وأصدقائهم وهم ينحبون ويواسون بعضهم البعض، ويتساءلون عن أسباب هذا الوباء الأميركي بامتياز: ظاهرة القتل الجماعي. وخلال أسبوع واحد، تم تنكيس الأعلام فوق البيت الأبيض حداداً على ضحايا اتلانتا، قبل رفعها، لكي تنكس من جديد حداداً على ضحايا بولدر. هذه المرة ربطَ بين مدينتي اتلانتا وبولدر البعيدتين جغرافياً عن بعضهما البعض خيط رفيع وطويل من الدم البريء.

السنة الماضية، كانت استثنائية لأنها خلت من أعمال القتل الجماعي، وربما يعود السبب إلى جائحة كورونا. “تعّرف جريمة القتل الجماعي اذا زاد عدد القتلى المدنيين عن أربعة ضحايا” ولكن سنة 2019 شهدت 9 حوادث قتل جماعي كان أبشعها في مدينة الباسو، في ولاية تكساس حين قام شاب عنصري بقتل 22 شخصاً معظمهم من اصل أميركي – لاتيني. وكانت أبشع جريمة قتل جماعي في 2018 تلك التي وقعت في مدرسة ثانوية في مدينة باركلاند في ولاية فلوريدا وأدت الى مصرع 17 تلميذاً وجرح 17 آخرين. كما شهدت تلك السنة 10 حوادث قتل جماعي سقط في كل منها 4 ضحايا على الأقل. معظم القتلة هم من الشباب البيض الذين يرتكبون جرائمهم لوحدهم ويستخدمون فيها أكثر من قطعة سلاح، وإن كانت بندقية “إيه آر-15” شبه الرشاشة سلاحهم المفضل، وهي البندقية التي طورت خلال حرب فيتنام لإلحاق أكبر ضرر ممكن بالضحية.

في العقود الأخيرة، لم يعد هناك مكان آمن في الولايات المتحدة. ضحايا القتل الجماعي سقطوا في المحال التجارية، في المدارس الابتدائية والثانوية، كما في الجامعات، وفي دور السينما، وفي المعابد الدينية حيث استهدف الرصاص المصلين المسيحيين واليهود والسيخ في لحظات التأمل والصلاة والترتيل.

وبعد كل جريمة قتل جماعي تشهد البلاد طقساً سياسياً أصبح مألوفاً ومؤلماً مثله مثل أعمال القتل. ترتفع الأصوات المطالبة بفرض قيود جديدة على اقتناء الأسلحة النارية، ويرد عليها اليمين الأميركي والمحافظين في شكل عام بالادعاء أن المشكلة هي في القتلة، الذي تعاني نسبة منهم من الأمراض النفسية، (اليمين يبالغ بهذه النسبة) وليست في شيوع الأسلحة وسهولة إقتنائها. شهد عام 2012 جريمة قتل جماعي مروعة، لأن أغلبية ضحاياها كانوا من الأطفال. في شهر كانون الأول (ديسمبر) من تلك السنة قام شاب اسمه آدم لانزا، في العشرين من عمره بدخول مدرسة ساندي هوك الابتدائية في مدينة نيوتاون، في ولاية كونيكتيكت وقتل بدم بارد 26 شخصاً من بينهم 20 طفلاً تراوحت اعمارهم بين 6 و7 سنوات. الجريمة صعقت الأميركيين، ونجم عنها حركة احتجاجية غير مسبوقة بعد جرائم القتل الجماعي لأن معظم الضحايا كانوا من الأطفال. وعلى مدى أسابيع بعد الجريمة كان هناك أمل كبير بقيام الكونغرس بتشريع قوانين جديدة تحد من اقتناء الأسلحة، بما فيها التحقق من خلفية كل من يشتري أسلحة نارية. وعندما لم يتحرك الكونغرس بسبب معارضة المحافظين، ولوبي الأسلحة النارية ذو النفوذ السياسي والمالي الكبير في الانتخابات، سلّم العديد من الأميركيين في أن تقييد حق اقتناء الأسلحة النارية لن يتم في أي وقت قريب.

في الأيام الماضية وبعد مجزرتي أتلانتا وبولدر، شهدنا الطقس السياسي ذاته في واشنطن بين مؤيدي حق اقتناء الأسلحة من دون حدود تقريباً، وبين دعاة تقييد هذا الحق. الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم التي يزيد فيها عدد الأسلحة النارية، عن عدد سكانها البالغ 328 مليون نسمة. وتبين الإحصاءات والدراسات، أنه بعد كل حادث قتل جماعي، تزداد مبيعات الأسلحة النارية، وبخاصة بندقية “إيه آر-15″، حيث يدّعي الذين يشترونها أنهم يفعلون ذلك قبل أن يتم تحريم بيعها.

تُعتبر الولايات المتحدة واحدة من بين ثلاث دول في العالم فقط، ينص فيها دستور البلاد على حق المواطن بشراء واقتناء الأسلحة النارية. الدولتان الأخريان هما المكسيك وغواتيمالا. واذا كان التعديل الاول للدستور الأميركي يضمن حق المواطن بممارسة حرياته الفردية (التعبير والتجمع وغيرها) فإن التعديل الثاني يضمن حقهم باقتناء الأسلحة وإن صيغَ بلغة مبهمة، “حيث أن وجود ميليشيا حسنة التنظيم ضروري لأمن أي ولاية حرة، فلا يجوز التعرض لحق الناس في اقتناء الأسلحة وحملها”. التعديل يشير الى حمل السلاح في سياق ميليشيا منظمة تدافع عن حق ولاية حرة ضد خطر خارجي مفترض، كما أن هذا التعديل أدخل على الدستور في عام 1791، حين كانت البندقية سلاحاً بدائياً. دعاة حمل السلاح اليوم يقولون إن التعديل الثاني يضمن حقهم باقتناء الأسلحة شبه الرشاشة. يمثل الأميركيون أقل من 5 في المئة من عدد سكان العالم، ولكنهم يملكون 42 في المئة من الأسلحة النارية في العالم. ووفقاً لإحدى الدراسات، فإن نسبة الأميركيين المسؤولين عن كل حوادث القتل الجماعي في العالم بين سنتي 1966 و 2012 تصل الى 31 في المئة.

هناك نظريات عديدة حول أسباب ظاهرة القتل الجماعي في الولايات المتحدة تراوح بين من يقول إن المجتمع الأميركي عنيف بطبيعته، أو بسبب التوترات العنصرية، او بسبب شيوع ومشاهدة أشرطة ألعاب الفيديو العنيفة، او لأن النظام الصحي الأميركي لا يعتني بالمصابين بالأمراض النفسية في شكل متطور او فعّال. ولكن كل الدراسات الأكاديمية حول حوادث العنف في العالم، ومقارنتها بأعمال العنف في الولايات فّندت هذه النظريات، ما يعني أن التفسير الوحيد والمقنع لهذه الظاهرة هو شيوع الأسلحة النارية، وسهولة اقتنائها من دون قيود حول نوعيتها او عددها، في معظم الولايات الأميركية. في معظم الولايات يمكن لأي شخص أن يشتري سلاحاً نارياً، طالما لا يوجد له سجل اجرامي، خلال بضع ساعات. هذا هو الحال في ولاية فرجينيا على سبيل المثال. ولكن فرجينيا مثلها مثل بعض الولايات تسمح لتجار الأسلحة ومقتنيها بتنظيم معارض تعرض فيها مختلف انواع الأسلحة للبيع، أو للشراء، من دون أسئلة او تحقق من خلفية المشتري الذي قد يكون له سجل إجرامي، او مصاب بأمراض نفسية.

الدراسات التي قارنت نسبة الأميركيين الذين يعانون من أمراض نفسية، وكيفية علاجهم، بعدد الذين يعانون من حالات مماثلة في الدول الصناعية والديموقراطية الأخرى في العالم، أظهرت عدم وجود فارق ملحوظ بين أميركا والدول الأخرى. وأظهرت دراسة اخرى في 2015 أن نسبة الأميركيين المصابين بأمراض نفسية من الذين تسببوا بأعمال القتل لا تزيد على 4 في المئة، ما يعني أن الأمراض العقلية ليست سبباً رئيسياً وراء هذه الظاهرة. أيضاً نسبة الأميركيين الذين يشاهدون العاب الفيديو العنيفة، لا تزيد على نسبة أولئك الذين يشاهدونها في الدول الصناعية الاخرى. ولكن الإحصاءات تبيّن أن نسبة جرائم القتل في عام 2009 وصلت الى 33 جريمة بين كل مليون أميركي، وهي نسبة تزيد على نسبة الجرائم في دول مثل كندا (5 لكل مليون) وبريطانيا (0.7 لكل مليون)، ما يشير الى علاقة سببية بين نسبة الجرائم العالية في الولايات المتحدة، وشيوع الأسلحة النارية. نسبة شيوع وتوفر الأسلحة النارية يفسر نسبة شيوع الجريمة بين الولايات المتحدة والدول الصناعية الأخرى. وتبيّن الدراسات أن تقييد حرية اقتناء الأسلحة، يؤدي الى تقليص معدلات الجريمة في دول مختلفة. بين عامي 1987 و1996 شهدت أوستراليا 4 حوادث قتل جماعي. ولكن في أعقاب الاستياء الاجتماعي العميق جراء هذه الجرائم، قام البرلمان الأوسترالي بتشريع قوانين قلصت في شكل قوي من اقتناء الأسلحة النارية، ومنذ ذلك الوقت لم تشهد أوستراليا حادثة قتل جماعي.

في الأيام الماضية استمعنا مرة أخرى إلى النظريات القديمة التي تتجاهل حقيقة التضخم الهائل في عدد وفعالية الأسلحة المتوفرة في أيدي الأميركيين، والمبررات العقيمة حول حق المواطن باقتناء الأسلحة من دون قيود، والادعاء المقزز أن الناس مسؤولون عن القتل وليس السلاح الذي يستخدموه. ويبقى السؤال المؤلم والمحرج الذي يطرح بإلحاح منذ جريمة قتل أطفال مدرسة ساندي هوك في 2012 من دون جواب. اذا لم يؤد قتل 20 طفلاً الى تغيير قوانين شراء وحمل الأسلحة النارية بعد هذه الجريمة الفظيعة، لن تتغير هذه القوانين، بعد حوادث القتل الجماعي “المألوفة” مثل تلك التي شهدها الأميركيون خلال الأسبوع الماضي.

شاهد أيضاً

إسرائيل تختار الصفقة بدلاً من الرد الاستعراضي

بقلم: علي حمادة – صحيفة النهار العربي الشرق اليوم– تجنبت ايران رداً إسرائيلياً استعراضياً يفرغ …