الرئيسية / مقالات رأي / متطلبات الثورة الصناعية الخامسة

متطلبات الثورة الصناعية الخامسة

بقلم: عبدالله السيد الهاشمي – الاتحاد

الشرق اليوم- قبل ما يربو على ثلاثمائة عام، كان العالم منغلقاً على نفسه وعلى أوهام الماضي وتسيطر عليه النزعات العاطفية، التي لا يحكمها العقل والمنطق بقدر ما يحكمها مظاهر وطقوس بالية أدت إلى الصراعات والحروب الطاحنة ففتكت بالشعوب، ومنعت إحراز التقدم العلمي، ولم يتغير ذلك إلا حين بدأ فعلياً تفكيك الإمبراطوريات العجوز، والتحول إلى العقل والمنطق وبدء ثورة الإنسان على نفسه.

الدنيا تتغير كل ساعة، والسباق المحموم نحو التميز لا يهدأ أبداً، والسياسة الخارجية لأي بلد هي المعيار الأول الذي يقيس مدى المرونة والتفاعل والذكاء، والتعايش السلمي بين أفراد المجتمع، بغض النظر عن أديانهم وطوائفهم وأعراقهم وجنسياتهم، هو المقياس الأول لمقاييس الأمن الداخلي الحديثة، ومع ذلك ما زال الذين يرتدون قناعات الماضي يكشفون ما يخفون من أوهام، يعبثون في عقول الناس، ويوجهونهم نحو التطرف والضلال…!

منذ الثورة الصناعية، خلال القرنين الثامن والتاسع عشر، التي بدأت باختراع الآلة البخارية وحلت المكائن مكان الأيدي العاملة، تحولت الحياة في الأرض تحولاً شاملاً وتغيرت الدول وطرق إدارتها، فتراجعت النزعة الطائفية والعرقية والدينية، وتقدمت العقول لتبني العالم من جديد، على أسس أكثر وضوحاً، ومروراً بالثورة الصناعية الثالثة، باختراع الحاسوب في العام 1969 وتبدل شكل الحياة مرة أخرى، بإرسال رسائل عبر الإنترنت وتغيير مبدأ الاتصال والتعليم، وصولاً إلى الثورة الصناعية الرابعة التي ظهرت خلالها تقنية النانو والروبوتات والطباعة ثلاثية الأبعاد والتحكم في الجينات وغيرها، لم يعد هناك حجة واحدة للدول والشعوب والأفراد التعلق بالأوهام والطقوس وحكايات الماضي واللطم على الأجساد والشعارات الفارغة، وأصبح التقدم العلمي هو المقياس الأول والأخير الذي يؤشر لقوة الدولة وقيمة الشعوب والأفراد، بقياس مدى وعيهم وانجذابهم وإصرارهم ومثابرتهم لتحقيق أفضل النتائج في السباق العلمي المحموم.

من المهم دائماً أن نتذكر أن تلك الثورات التي حدثت في العالم منذ ظهور كتاب إسحق نيوتن «الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية» في العام 1687، ما كان لها أن تحدث، لولا استنادها إلى العقل وليس إلى العاطفة. ففي أوروبا وبعد انطلاق الثورة الفرنسية عام 1789 وظهور عدد كبير من العلماء والفلاسفة الذين نشروا أفكارهم التنويرية، تراجعت سلطة الكنيسة في أوروبا، وساد العقل والمنطق، وفهم الناس أن النزعات الطائفية والعرقية والدينية المتطرفة كانت تقودهم نحو الجنون وإراقة الدماء، ولم تتمكن من إحراز أي إنجاز بشري منذ فجر التاريخ، وأن اختراع الآلة البخارية والكهرباء يساويان وحدهما كل ما تم اختراعه أو اكتشافه سابقاً، فاستغلت أميركا واليابان وغيرهما ذلك الإشعاع التنويري، وراحت تتطور بناءً على لغة العقل والمنطق والرياضيات، وليس بناء على حجم العاطفة المتعلقة بالماضي السحيق.

خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، ظهر الكثيرون في العالم العربي يطالبون بعصر تنويري يشبه العصر التنويري الأوروبي، وعلى النقيض من ذلك، ظهرت أيضاً جماعات إرهابية تطالب بعودة الخلافة على أسنة الرماح وقتل الأبرياء وتدمير الحضارات، ولم ينجح أي منهما في تحقيق أي نتيجة، لأن كلا الفريقين، يريدان تطبيق نظريات قديمة أو مستوردة على واقع حديث يرتبط بالتغييرات الجذرية التي حدثت في الشرق الأوسط وباقي الدول العربية، ويرتبط أيضاً بالتغييرات الجيوسياسية والديموغرافية وموازين القوى التي تبدلت خلال المائة عام الأخيرة، وهذه التغييرات، بمختلف أنواعها، لم ولن تقبل سيادة العاطفة والنزعات العدائية والتفرقة الوطنية القائمة على الولاءات الخارجية كما يحدث مع حزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن.

الشيء الوحيد الذي سيمهد للثورة الصناعية الخامسة، في الشرق الأوسط وفي العالم أجمع، هو أن يسود العقل وتسود المثل العليا، كالتسامح والإخاء والرقي والتعايش السلمي، بين جميع الطوائف والأديان والأعراق والجنسيات مرة أخرى، واتباع النموذج الإماراتي الحكيم الناجح، الذي فهم هذه الدروس وراجعها مراجعة دقيقة، فحقق خلال خمسين عاماً ثورة علمية واجتماعية وإنسانية حقيقية، تفوقت على دول عظمى ودول صناعية كثيرة، بدأت العمل منذ مئات الأعوام، ولكنها ما زالت تغوص في نزعاتها وخلافاتها العرقية والدينية والطائفية.

يحق للإمارات أن تفخر بتكسير الحواجز التي تسببت في التخلف العلمي والإنساني وعزلة الشعوب، وأن تفخر بتحطيم الأصنام التي بناها البعض وراحوا يعبدونها، وأن تفخر أيضاً بتقدمها العلمي ورؤيتها الاستراتيجية بسيادة العقل والمنطق، وتبني مفاهيم العدل والتسامح والمؤاخاة والتعايش السلمي ونبذ ومكافحة التطرف والإرهاب.

شاهد أيضاً

روسيا التي لا تساند أحداً… علاقة غير عادلة مع إيران

بقلم: يوسف بدر – النهار العربي الشرق اليوم– في مقالته في صحيفة “وول ستريت جورنال” …