الرئيسية / مقالات رأي / الواقع السياسي والفكرة السياسية

الواقع السياسي والفكرة السياسية

بقلم: جمال الطاهات – الدستور الأردنية

الشرق اليوم- إن الإجابة على سؤال (ما هو الواقع؟) تمثل أهم تحدي مستمر ومتجدد يواجهه العقل الإنساني. فهذا السؤال ينطوي على فرضية كبرى، ثبتت صحتها، وهي أن خلف الظواهر التي تعاينها الحواس، هناك عناصر ومؤثرات وتكوينات خارج نطاقها. فخلف كل ما يمكن معاينته هناك جزيئات وذرات وعناصر ومكونات (توصل إليها المنطق التحليلي وثبتت تجريبياً بتعظيم ظرفي لقدرات الحواس) لا يمكن معاينتها بظروف الحياة اليومية. وأيضاً هناك ما يبدو أنه فضاء آخر خارج نطاق الحواس، ولا يمكن إدراكه بها، وهي القواعد والطريقة التي تترتب بها هذه الجزيئات والذرات لتمنح الأشياء هويتها وحضورها العياني. فهوية الأشياء لا تنبع من مكوناتها فقط، ولكن من الطريقة التي تركبت فيها هذه المكونات. ووعي الطريقة التي تترتب فيها المكونات وفهمها، هي نطاق التفاعل بين العياني والفكري.

وكذلك الواقع السياسي، لا يمكن التعبير عنه بالحديث عن المكونات الأساسية التي تشكله، بل بالطريقة التي تتشكل فيها هذه المكونات، وفي القواعد التي تحكم العلاقة بينها. وهذا ينطبق كذلك على الواقع الاقتصادي، وعلى الواقع الثقافي، وعلى أي تجلي عياني من التجليات التي يمكن تصنيفها.

والفكرة السياسية مهمتها الأساسية ليس اكتشاف مكونات الواقع السياسي العياني، ولكن اكتشاف الطريقة التي تتشكل فيها المكونات، والقواعد التي تحكم العلاقات فيما بينها. ولكن العلاقة بين الفكرة السياسية والواقع السياسي ليس مجرد اكتشاف وفهم، كما هو الحال بين الواقع الذي يتجلى في المجالات الفيزيائية. إذ أن الفكرة السياسية التي نفهم فيها الواقع السياسي، ونستوعب من خلالها الطريقة التي تترب فيها عناصره لتمنحه هويته الخاصة، هذه الفكرة تمثل منذ انبثاقها وتحولها إلى الفضاء العام إلى مكون من مكونات الواقع السياسي. فالواقع السياسي بكل بساطته هو سديم من الأفراد، تم تشكلهم عبر طيف متداخل ومتفاعل من الأفكار. فما أن تبرز الأفكار التي تساعد على فهم الواقع السياسي (واكتشاف قواعده)، حتى تصبح هذه الأفكار جزءاً من هذا الواقع نفسه، ومساهم فعل في تشكيله واكتسابه هويته.

والطبيعة الخاصة لانسيابية الواقع السياسي، وانفتاحه على عملية تحول دائمة ومستمرة، متعلقة بتأثير الأفكار على تغيير الطريقة التي تتشكل بها عناصره الأساسيه، فما أن يستقر بصيغة ما، حتى تكون الأفكار التي تحاول أن تفهمه قد بدأت بتغييره. مما يضع الأفكار السياسية في موضع خاص من حيث أنها وسيلة مزدوجة لفهم الواقع السياسي وتغييره في ذات الوقت.

وفاعلية الفكرة وقدرتها في التأثير على طريقة تشكل الواقع السياسي، متعلقة بقدرتها على أنها تعبير عن فهم موضوعي لهذا الواقع. فهناك أفكار سياسية تتلاشى، وهناك أفكار لا قيمة لها. ومصدر قيمة الأفكار ووزنها، غير متعلق بحجم تأثيرها عند انبثاقها، ولكن بقدرتها على أن تتحول إلى خطوط اشتباك وتفاعل بين مكونات الواقع السياسي.

فمنذ تشكل الدولة الحديثة وهناك بحث متراكم عن علاقة الأفكار بالواقع السياسي. وشهد القرن التاسع عشر، حضور طاغي لهذا المجال للبحث، حيث أصبحت دراسة وفهم الواقع السياسي، متعلقة بالقدرة على فهم الأفكار التي ترسم خطوط الاستباك والتفاعل في هذا الواقع. فبعد مساهمات هيغل المثالية لتبيان دور الفكرة في تشكيل الواقع، جاءت مساهمات الحركة اليسارية، نموذجها كتاب الأيديولوجيا الألمانية، وما تلاها من صراعات وتحولات كبرى تكشف تأثير الفكرة بالواقع السياسي، لتثبت بشكل حاسم العلاقة المركبة بين الواقع السياسي والفكرة السياسية. من حيث أن الفكرة التي تستطيع ان تعبر موضوعياً عن الواقع السياسي، وتساعد على فهمه، هي ذاتها التي تشكل هذا الواقع وتصوغ معالمه. 

شاهد أيضاً

إسرائيل تختار الصفقة بدلاً من الرد الاستعراضي

بقلم: علي حمادة – صحيفة النهار العربي الشرق اليوم– تجنبت ايران رداً إسرائيلياً استعراضياً يفرغ …