الرئيسية / مقالات رأي / الشعبوية والجمهورية إذ تجتمعان

الشعبوية والجمهورية إذ تجتمعان

بقلم: حين منيمنة – الحرة

الشرق اليوم– لا مفاجأة في خطاب الرئيس السابق، دونالد ترامب، والذي ألقاه في مؤتمر العمل السياسي المحافظ “سيباك” السنوي يوم الأحد الماضي. تمسّكٌ بمقولة “السرقة الكبيرة” والتي تزعم بأن التزوير في الانتخابات الماضية قد حرم ترامب من عهدة ثانية، تشهيرٌ واستهداف للعدد القليل من أعضاء مجلسي النواب والشيوخ من الجمهوريين الذين صوتوا لاتهام ترامب أو إدانته لمسؤوليته عن إثارة أعمال الشغب يوم السادس من يناير الماضي، طعنٌ واستهزاء بأداء الرئيس الحالي، جو بايدن، ووعد ووعيد بإنزال الهزائم الانتخابية به، وقدر كبير من الإطراء على الذات والتبجح بالانجازات، الصادق منه والموهوم.

ولكن خطاب ترامب، وطقوس الولاء والطاعة والخضوع للرجل، والتي شهدها المؤتمر، تكشف بوضوح أن الحزب الجمهوري لم يتجاوز مرحلة ترامب بتاتاً، وأن التبدل بطبيعته وهويته من الصيغة الجمهورية إلى الصيغة الشعبوية لم يكن عرضياً. وهذا الأمر على قدر كبير من الخطورة، ليس فقط للحزب، بل للولايات المتحدة وما يتعداها.

ما يشهده الحزب الجمهوري هو تبدّل نوعي في طبيعة خطابه السياسي وهويته المعنوية. للتأكيد، الحزب الديمقراطي يعاني بدوره من حالة مشابهة عند هوامشه. واقتصار الحال على الهوامش كان واقع الحزب الجمهوري إلى أمس قريب.

بل يمكن القول أن تفشي الخطاب القطعي العدائي عند الهوامش كان جزءاً أصيلاً من التركيبة الفكرية بالنسبة للحزبين، مع انحسار في النبرة عند التدرج من أقصى اليمين إلى الوسط، بالنسبة للجمهوريين، ومن أقصى اليسار إلى الوسط بالنسبة للديمقراطيين. الحصيلة كانت التقاء الخطاب المعتدل من كلا الحزبين مع نظيره من الحزب الآخر لتشكيل إطار فكري مشترك يحضن الاختلاف ويجعل منه مادة للحوار الوطني.

المسألة اليوم هي أن الحزب الجمهوري يكاد أن يتخلى عن أدبياته الوسطية وأن يعتمد لغة التجزئة والملامة والطعن، والتي تلازم الرئيس السابق.

يبدو أن ترامب قد نجح بالفعل بإحكام قبضته على الحزب الجمهوري. ثمة معارضة بالتأكيد من بعض أعضاء مجلسي النواب والشيوخ في الكونغرس، ولكن هذه المعارضة آفلة إلى حد الغياب بالمقارنة مع الولاء الذي يشهره غالب الجمهوريين، والذي يعكس بدوره حجم التأييد الشعبي الواسع النطاق.

غير أن السير باتجاه هذه القطيعة مع الوسط ليست نتيجة رئاسة ترامب، بل هي سابقة لها بعقود، ويمكن استشفاف بوادرها في مواقف، نيوت غينغرش، الذي استعاد مجلس النواب للجمهوريين من كلينتون، عام ١٩٩٤، وفي تيار “حفلة الشاي” أو “حزب الشاي” على مدى العقدين التاليين.

هي الشعبوية التي تستعيض عن الحوار الديمقراطي الجمهوري برفض الآخر وشيطنته والتشهير به وإدانته، ليمسي العدو لا الخصم، ولتقاس أقواله وأفعاله على أنها شر وأذى بسوء نوايا، لا أنها مواقف حسنة النية يراد بها الخير وإن كانت على خطأ.

اليوم، الشعبوية لا تقتصر على السياسيين، بل الواقع أنه لا يخلو أن يلجأ كل سياسي عند اشتداد الضغط عليه إلى بعض الشعبوية. ولكن حين تترسخ الشعبوية، ومعها الأساليب الاعتذارية والسجالية، في عمق الخطاب الفكري، فإن الأزمة تصبح واقعاً مقلقاً.

الكاتب والمخرج الوثائقي، دينيش دسوزا، من المفكرين المحافظين الذين يجسدون هذا المنحى. هو هندي الأصل، جاء الولايات المتحدة طالباً جامعياً قبل عقود، ثم استقر فيها وأصبح أحد أبرز المدافعين عن التوجهات المحافظة.

يتميز دسوزا بفصاحة خطابية مشهودة وبذكاء واضح وحاد. لا مكان للتعبئة العاطفية في كلامه، ولا محاولات فجّة لإثارة المشاعر والتلاعب بالجمهور. ما يصدر عنه هو الخطاب الموضوعي المتزن في أسلوبه ونبرته، والمصرّ في توجهه إلى مخاطبة العقل.

في المقابل، فإن دسوزا قد لقي معاملة أقل ما يقال فيها إنها مشبوهة. فهو قد سُجن في عهد الرئيس الأسبق، باراك أوباما، بعد أن أدين بمخالفة مالية في تجاوزه حدود المساهمة للحملة الانتخابية لأحد أصدقائه من الجمهوريين. والواقع أنه قلّ أن يتعرض من يرتكب مخالفة من هذا النوع لعقوبة بهذه الصرامة، إذ عادة ما يقتصر الجزاء على الغرامة المالية.

فرغم ظاهر التقيّد بنص القانون، لا يمكن تجنب التساؤل عمّا إذا كان للحكم خلفية سياسية، وإن ضمنية. على أي حال، دي سوزا هو أحد الذين استفادوا من قرارات العفو الرئاسية والتي أصدرها ترامب.

اجتهد دسوزا في وثائقياته وكتبه تذكير المشاهدين والقراء أن الحزب “الجمهوري”، حزب أبراهام لنكولن، هو الذي “حرّر العبيد” في القرن التاسع عشر، فيما الحزب الخصم، أي الحزب “الديمقراطي” كان هو المسؤول عن استمرار الاستعباد في الولايات الجنوبية ثم عن المسعى الانفصالي، وأنه من رحم الحزب الديمقراطي ولدت جماعة “كو كلاكس كلان” المعادية لـ “السود”، شنقت منهم من شنقته، وأرهبت الكثيرين ودفعت بهم إلى الرحيل.

“الديمقراطيون” في هذا الخطاب السجالي المحافظ، هم الذين اعتمدوا الفصل العرقي في الولايات الجنوبية، وهم الذين قاوموا حملة الحقوق المدنية، وهم اليوم من يبقي المواطنين “السود” في عبودية جديدة، هي عبودية التبعية الاقتصادية لبرامج الرعاية الحكومية، بغية ضمان صوتهم الانتخابي.

يمكن جمع دسوزا مع رهط من الشخصيات غير المتوقعة، هو لبشرته السمراء، آخرين لعرقهم “الأسود” أو لدينهم اليهودي، من المروجين لهذه المقولة، بما يؤيّد الطرح المحافظ والجمهوري، وينفي تهمة “العنصرية” عن وجوهه السياسية.

على أن في هذا التصوير للديمقراطيين من دسوزا وصحبه الكثير من التجني والنفاق وصولاً إلى الكذب.

ليس أن سياسات الرعاية الاجتماعية، والتي تكاد أن تقترب من الوصاية، التي يستفيد منها المواطنون “السود” بنسبة تزيد عن غيرهم، والتي دعا إليها الديمقراطيون ووضعوها موضع التطبيق، ناجحة تمام النجاح، أو حتى، بالنسبة للبعض منها، ناجحة حتى بالقدر المتواضع. بل العديد منها فاشل، ولا بد بالتأكيد من مراجعة التأثير السلبي لهذه البرامج، بشكلها المعتمد، على أوجه عديدة من حياة المواطنين “السود” ومجتمعاتهم.

غير أنه شتّان بين وصف برنامج بالفشل والإشارة إلى مواطن الخلل والعلة في تصميمه وتطبيقه، وبين اعتبار هذا البرنامج مشروعاً متعمداً لاستعباد جديد. وهذا الزعم هو ما يواظب عليه دسوزا. “الديمقراطيون” من وجهة نظره، على ما يبدو، لا يخطئون البتة، بل كل النتائج السلبية لبرامجهم، والتي يذكرها مدلساً دون الإشارة إلى أي وجه إيجابي، هي جزء من مسعى مقصود لجعل المواطن الأسود رهينة للحزب الديمقراطي.

غير أن النفاق الجلي في كلام دسوزا هو هذه المقولة التي أصبحت رائجة بأن “الجمهوريين” هم الذين “حرّروا العبيد”، وأن “الديمقراطيين” هم الذين دافعوا عن العبودية وما تلاها من قبائح.

هذا كلام منافق، لأنه صادق في ظاهره، كاذب متعمد في باطنه. نعم، النخب “البيضاء”، ومعها عموم مجتمعاتها، في الجنوب حيث كان الاستعباد، كانوا في صفتهم الحزبية من “الديمقراطيين”، فيما كان أبراهام لنكولن، ابن ولاية إيلينوي الشمالية، “جمهورياً”. على أن هذه صفات سياسية انتخابية، والأحزاب هنا واجهة للقوى التي تتشكل منها، وليست موجهة أو صاهرة لها.

فحين انتظمت فئات وقوى أخرى، عرقية واقتصادية ومناطقية، ضمن الائتلاف الانتخابي للحزب الديمقراطي، في ستينيات القرن الماضي، عمدت النخب “البيضاء” ومعها جمهور المقترعين، إلى الانتقال بالتصويت لصالح الحزب “الجمهوري”، والذي كان قد تراجع في أوساطه منذ أجيال همّ الاستعباد والاسترقاق. ومع نجاح حملة الحقوق المدنية في الستينيات، كان الحزبان قد استبدلا قاعدتيهما.

أي ما كان بالأمس من الديمقراطيين في الجنوب، الأوساط “البيضاء” المحافظة، والمعادية صراحة يومئذ للتحرر “الأسود”، أصبح جمهوري الولاء، فيما انتشر الانتساب للحزب الديمقراطي في الشمال حيث ترتفع أعداد “السود” وغيرهم من الأقليات نسبياً، من تشبّث بالعبودية وأطلق حركات اضطهاد “السود” ليس الحزب الديمقراطي ولا الحزب الجمهوري، بل العديدون ضمن الأوساط البيضاء في الولايات الجنوبية.

انتسابهم السياسي، والذي كان عرضاً للحزب الديمقراطي ثم للحزب الجمهوري، لم يكن الدافع، ولا رابطا مباشرا بينه وبين سلوكهم التمييزي.

هي حقائق لا تخفى البتة عن دسوزا، بثقافته الواسعة واطلاعه الأكيد، واختياره تجاهلها نفاق بواح. بل يتجاوز دسوزا في وثائقياته الحاجز المبهم بين النفاق والكذب حين يطرح الشبهة الواهية، ثم يبني عليها وكأنها حقيقة ثابتة، ليمسي بالتالي أوباما شيوعياً حاقداً على الولايات المتحدة يسعى إلى تدميرها، ولتصوّر هيلاري كلينتون على أنها أداة طيعة لخدمة أغراض ومصالح خارجية.

كل هذا لا يبرر بأي حال أن يكون دسوزا قد استفرد لعقاب خارج إطار التساوي أمام القانون، كما يجوز بالفعل الارتياب. وفي حين أن ترامب قد أفرط باستعمال صلاحية إصداره للعفو في حالات عدة، فاستفاد منها أصدقاؤه وكل من أظهر له مطلق الولاء، فإن منحه العفو لدسوزا بالتأكيد في مكانه. بل الواجب أن يجري التحقيق بظروف سجنه.

ولكن بغضّ النظر عن هذه المسألة، فإذا كان دسوزا وغيره من المفكرين المحافظين، وهو القادر فكرياً على المواجهة والمحاججة، ممعناً وحسب بما يحاكي الشعبوية من أساليب ملتوية، فإنه لا سبيل إلى موازنة لا دونالد ترامب ولا من سوف يأتي بعده للاستفادة من الشحن والتعبئة والتحشيد في صفوف الجمهوريين والمحافظين.

ربما في ذلك بعض الكسب الآني للحزب الجمهوري، ولكنه تفريط مخجل بسجل هذا الحزب وإمكانياته، وبالمسؤولية التاريخية أمام الولايات المتحدة بجيلها الصاعد وأجيالها القادمة. الشعبوية والجمهورية لا تجتمعان.

شاهد أيضاً

الأمل المستحيل لإسرائيل

بقلم: عاطف الغمري – صحيفة الخليج الشرق اليوم- عندما يطرح مركز بحوث أمريكي مؤيد دائماً …