الرئيسية / مقالات رأي / ميراث الإدارة السابقة: ألغام هنالك وتصدع هنا

ميراث الإدارة السابقة: ألغام هنالك وتصدع هنا

بقلم: حسن منيمنة – الحرة

الشرق اليوم- ربما أن معيار الانفصام الثقافي الذي تشهده الولايات المتحدة، وعدواه تنتشر كالجائحة في أرجاء العالم، هو الموقف من شخص دونالد ترامب.

ثمة من يعتبر أن الرجل هو في الأصل ظاهرة انتهازية، وأن نجاحه في التسلق إلى موقع الرئاسة كان لتضافر عوامل عرضية، ولا سيما منها الوهن وسوء التقدير في الحملة الانتخابية المنافسة، وأن أداءه كرئيس كان كارثيا، وأنه ضاعف بالتالي من مصائب الولايات المتحدة في الداخل وفرط بموقعها وسمعتها وهيبتها ومصالحها في الخارج، وأن التخلص منه، رغم تعنته وصولا إلى المسعى الانقلابي للبقاء في السلطة، هو الدليل على نضوج النظام السياسي الأعرق في العالم.

في المقابل، فإنه ثمة من يعتبر أن ترامب، وإن شابت أسلوبه الشوائب، جاء بمثابة التحدي الموضوعي الصارم لمنظومة سياسية نخبوية أخضعت الولايات المتحدة لعولمة تتعارض مع صالح مواطنيها، وأن خطواته التصحيحية كادت أن تحقق الموعود رغم إلحاح الأعداء والخصوم على محاولات الإفشال، سوى أن الجائحة عرقلتها، قبل أن تعمد النخبة المتضررة إلى الاستفادة من الارتباك لإعادة الإمساك بالحكم.

العرضي هو بالتالي منع الرئيس من عهدة ثانية استحقها، غير أن الفطن لا يلدغ من جحر مرتين، والعودة إلى ما جرى اعتراضه من مسار تصحيح متحققة لا محالة، وأول الغيث الانتخابات النصفية بعد أقل من عامين.

ليت الخلاف السياسي في الولايات المتحدة يتوقف عند الحد المذكور أعلاه. بل هذه وتلك هما الصيغتان المهذبتان له. أما أخواتهما الوقحة، فتنغمس بمؤامرات الأيادي الخفية وعبادة الشيطان وشرب الدماء والاعتداء على الأطفال، ولا حاجة للخوض فيها.

ما شهدته الولايات المتحدة في الأعوام الخمسة الماضية، أي في رئاسة دونالد ترامب والسنة الانتخابية التي سبقتها، هو زلزال صدع قشور الاستقرار وأعاد إطلاق العنان لحروب الثقافة، والتي لجمها الخوف المشترك من الإرهاب إلى حين، وكشف افتقاد الخطاب السياسي في البلاد القدرة على مواجهة الشعبوية التعبوية وما يصاحبها من بذاءة لفظية، كادت أن تكون العلامة الفارقة لهذا الرئيس، وبما تضاعفه من جذب ودفع في الاستقطاب.

في مواضيع الشرق الأوسط، كما في غيرها، كان أداء ترامب مزيجا من السياسة الجادة المبنية على الرؤية المحافظة المتشائمة في واقعيتها والتي سعى العديد من الجمهوريين إلى إقناعه بها، ومن الاعتبارات الآنية الدائرة حول تحقيق الرجل لمصلحته الذاتية، سواء المباشرة بالشكل المبهم، أو غير المباشرة للأصدقاء والشركاء بشكل أكثر جسارة، مع الاحتفاظ بإمكانية توظيف الفعل خطابيا وتعبويا.

يختلف ترامب عن غيره من الرؤساء وسائر السياسيين هنا بالكم وحسب، حيث أن كل فعل سياسي ينضوي على مصلحة ذاتية لمن يقدم عليه. ومن وجهة نظر المتلقي، فإنه لا عزاء مثلا، بأن تكون “هفوات” باراك أوباما قد جاءت عن “عمق تفكير” و”حسن نية”، مع العلم بأن أصول السلوك السياسي لباراك أوباما، رغم طلاقته الخطابية، لا تبتعد عن تلك التي انتهجها ترامب ضمنا، ابتداءا من الغرور الرافض للإنصات لآراء الخبراء، مرورا بالإصرار على قناعات شعاراتية وإن تعارضت مع الوقائع، وصولا إلى شخصنة العلاقات الخارجية. بل أن حساب الضرر، والألغام، التي خلفها دونالد ترامب، لا يكون إلا بالبناء على تلك التي تركها الرئيس السابق له.

ولكن، دون الحاجة إلى مراجعة تاريخية عميقة لنقد شامل لسياسة الولايات المتحدة، يمكن الانتباه إلى ثلاثة ملفات كان لترامب دور في تأزيمها بعد انتهاء ولايته.
 
الملف الأول هو الملف الإيراني. لا شك أن باراك أوباما كان قد خاض هذا الملف انطلاقا من قناعات مسبقة، تعتبر أن استعداء إيران خطأ لا بد من تصحيحه. بل إن أوباما أقحم نفسه، وهو الحائز على جائزة نوبل للسلام، بحاجة التوصل إلى اتفاق بأي ثمن، وبالاعتماد على حسن النوايا التي قد ينشئها هذا الاتفاق لدى الجانب الإيراني.

الحصيلة كانت اتفاقا هزيلا يتوافق مع المطالب الإيرانية، ولكنه لا يلزم إيران إلا بالقليل. ما كان على طهران إلا التقيد بنص الاتفاق، وهكذا فعلت، ليكون الإنجاز لها، فيما يستطيع أوباما أن يتفاخر وحسب بأنه حصل على اتفاق، وإن كان المضمون متعارض مع مصلحة الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها.

وعمدت إدارة ترامب بالتالي إلى الخروج من هذا الاتفاق، وهو للتأكيد، من وجهة نظر أميركية، اتفاق بين إدارة أوباما والجمهورية الإسلامية، وليس اتفاقية صادقت عليها السلطة التشريعية في الولايات المتحدة لتصبح قانونا ملزما، ولا يبدل ذلك أن تكون إدارة أوباما قد ناورت لربط الاتفاق بقرار لمجلس الأمن الدولي.

أن تعمد إدارة ترامب إلى فرض عقوبات قصوى على إيران، هو حق سيادي للولايات المتحدة له ما يفسره ويبرره من وجهة نظر تحقيق المصلحة الوطنية والاستقرار العالمي.
 
والخطأ الذي ارتكبته إدارة ترامب هنا، بل الذي ارتكبه ترامب شخصيا هو توظيفه هذا الانسحاب ضمن معركته الجانبية الخرافية مع الحلفاء الأوروبيين، في استعدائه الصبياني لهم، واتهامهم بأنهم يستغلون الولايات المتحدة,

فبدلا من السعي الجدي لاستمالتهم إلى منطق تصحيح الاتفاق، جعلت منهم مواقف ترامب العدوانية طرفا واحدا مع إيران (والصين وروسيا) إزاء الخطوات الأحادية للولايات المتحدة.

وبدلا من أن تجتهد إدارة ترامب بالتواصل مع الديمقراطيين في الداخل الأميركي للتأسيس لقناعة وطنية مشتركة حول الحاجة إلى تصحيح المسار التفاوضي مع إيران، أمعن ترامب، بما ينسجم مع شغفه بالطعن والاتهام والسباب، بقذف أوباما وكافة الديمقراطيين باتهامات الخيانة والتواطؤ، بما أضاع الفرصة أو كاد أن يضيعها لمتابعة نهج التصحيح بعد انتهاء عهده.

بل الرجل، بعد أن قوض طاقمه في نهاية رئاسته ليقتصر على الأتباع الخاضعين، حاول أن يضع العراقيل أمام الإدارة الجديدة، في تعيينات مربكة وقرارات إشكالية.
 
لا تبدو توجهات إدارة بايدن إزاء إيران محسومة بالشكل الكامل. الشخصيات المولجة بالملف قد توحي بأنه ثمة عودة إلى موقف أوباما، غير أن المواقف الصادرة عن فريق العمل وعن الرئيس بايدن نفسه تفيد بأن المقاربة لن تكون مطابقة لتفريط أوباما وقد تتمكن من الاستفادة من بعض منحى إدارة ترامب، رغما عن ترامب.

وكما في الملف الإيراني، كذلك في الملف الفلسطيني الإسرائيلي. الحاجة إلى تحريك هذا الملف كانت قائمة، ولا سيما بعد سوء إدارته من جانب باراك أوباما وطاقمه. غير أن خطوات التحريك، وإن كانت منطقية من وجهة نظر أميركية، بما فيها مساءلة المسلمات والتسليم بالوقائع، جاءت تطبيقيا مفعمة بأخلاقيات ترامب، الطاعنة بالفلسطينيين والمهينة لهم والساعية علنا إلى إقصائهم، والمتصرفة بحقوقهم وكأنها منة ارتأى صاحب العز والجاه، سلطان البحر وخاقان البر دونالد ترامب دام ظله الوفير، منحها للإسرائيليين بدلا منهم.

ثمة فارق بين الإقرار بالحق السيادي لإسرائيل بأن تختار عاصمتها على أراض لا خلاف بشأن سلطتها عليها، أي أورشليم (القدس الغربية)، وبين تقديم “القدس الموحدة”، بما فيها القدس (الشرقية) الفلسطينية المحتلة، لإسرائيل كـ “عاصمة أبدية” بقرار عقدة عظمة صادر من واشنطن.

وثمة فارق بين أن تدعو القوة العظمى إلى الواقعية في التعاطي مع حال الأراضي المحتلة، والتي قامت عليها المستوطنات الإسرائيلية منذ أجيال، فتعمل على إيجاد صيغة عملية للتعايش والتكامل، وبين أن يتقدم فريق من الأهوائيين بمهزلة الجسور والأنفاق والأحياء المقطعة الأوصال تحت مسمى “الدولة الفلسطينية”، وأن يصاحب هذا الطرح الفظ بمسعى علني لطمس مقومات القضية الفلسطينية، وبهبة فورية لإسرائيل بأن تضم ما شاءت من الأراضي المحتلة.

من الإسرائيليين من يجد في خطوات ترامب هذه فعل صداقة. بل هي شناعات تضر في نهاية المطاف بإسرائيل بقدر ما تضر بالفلسطينيين.

قد يدرك الفلسطينيون يوما مقدار الاحتواء والتلطيف لهذا التهور من جانب إدارة ترامب في الخطوة التطبيعية التي أقدمت عليها الإمارات.

إسرائيل واقع على المحيط العربي أن يرتقي إلى القبول به، وإن ثابر العقائديون على محاولة التعامي عن حقيقته. وفلسطين، المجتمع بالتأكيد وربما الدولة العتيدة المستقلة إن لم تكن الصيغة المستقبلية جامعة في إطار اتحاد مع إسرائيل، واقع لا ينفيه جهل دونالد ترامب أو وقاحته أو غروره. فريق بايدن يبدو مؤهلا للتعاطي مع الوقائع، قليلها البناء وكثيرها التخريبي، من مخلفات الإدارة السابقة.

لا تتوقف ملفات ترامب الملغومة في الشرق الأوسط على هذين الملفين الرئيسيين، بل تشمل كذلك العراق وسوريا واليمن ولبنان ومصر وليبيا والسودان والمنطقة المغاربية. على أنها كذلك تطال جانبا آخر على قدر خطير من الأهمية في الولايات المتحدة نفسها.

جاليات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة، قبل ترامب، كانت للتو على قدر من الاستقطاب. أعداد المسيحيين في الشرق الأوسط كانت تشهد الانحدار، وهجرتهم إلى الغرب فاقت في نسبتها هجرة المسلمين وغيرهم. المسؤوليات في هذا الشأن عديدة وعلى اختلاف وفق البلدان، على أن القاسم الجامع بين معظمها هو استسهال التضييق على المسيحيين ضمن نظم سياسية وفكرية لم تنتقل إلى منطق المواطنة، بل اختارت أن ترى فيهم ما يبرر إقصاءهم، دينيا أو قوميا، وما يهيئ للانتقاص منهم إنسانيا واقتصاديا.

من لا يدرك مقدار الاضطهاد والتهميش والذي يعاني منه المصريون الأقباط، إما أن يكون جاهلا للحقائق أو متجاهلا لها. من لا يرى كيف جرت تصفية المجتمع المسيحي في العراق، ليمسي شذرات مما كان عليه، وليستمر في معاناة تقليصه إلى اليوم، يبقى بعيدا عن الإنصاف.

من لا يعتبر من توظيف نظام دمشق لخوف المسيحيين لردعهم عن الاصطفاف الوطني، ولدحرجة هذا الاصطفاف إلى الفشل، يتجاهل شقا هاما من المأساة السورية. ومن لا يرى فيما يجري في لبنان، الدولة الوحيدة في المنطقة والتي للوجود المسيحي فيها طابع سيادي، في إخضاع الراغبين بالسلطة منهم لعقد ذمة مع وكلاء ولاية الفقيه، يتجاهل الجانب الأخطر مما تتعرض له الحالة المسيحية في مشرقها الأول.

ولكن، إلى أمس قريب، كانت جاليات المنطقة في الولايات المتحدة تسير باتجاه التأسيس لما منعتها منه ظروف المنطقة البائسة: هويات ذاتية سيدة عزيزة، متباينة حينا متداخلة أحيانا، عربية قبطية مسلمة أشورية لبنانية شيعية فلسطينية يمنية عراقية مارونية درزية وغيرها، وهوية ثقافية جامعة تحاكي بعض أوجه ما كان يتمناه المنفتحون فيها، شرق أوسطية، عربية، ناطقة بالعربية، ضمن هوية وطنية أميركية مطمئنة.

ليس أن حروب الثقافة في الولايات المتحدة قد عفت عن هذه الجاليات. ولكن أصداء هذه الحروب كانت بعيدة نوعا ما. الواقع تبدل مع دونالد ترامب.

هل أن الملامح “الشرق أوسطية” لهذا الرجل البريء من الحداثة بمعانيها القيمية والحقوقية والساعي صراحة إلى التشبه بطغاة المنطقة والعالم قد استهوت البعض إلى حد الإغواء، أم هل أن سبابه وشتائمه قد روت غليل البعض؟ بل قد يقول البعض إنه قد رأى فيه فعلا النصير والموالي، وإنه دون غيره قد وقف دفاعا عن المسيحيين في المنطقة. رغم أنه لم يفعل.

النتيجة هي أن وجوهاً عديدة حاولت زعم تأييد، بعضه متحقق وبعضه مبالغ فيه، الرجل في صفوف جاليات شرق أوسطية، في بعض الأحيان تحت يافطات دينية، علنية أو مقنّعة. والحصيلة هي حالة تصدع لهذه الجاليات هنا، واتجاه إلى استيراد فئويات هنالك ومضاعفتها، ومن ثم إعادة تصديرها، بدلاً من أن تكون الولايات المتحدة الحاضنة للتجاوز الناضج للفئويات، كما كان التوقع.
 
إدارة بايدن سوف تعمد حكما إلى معالجة الملفين الإيراني والفلسطيني الإسرائيلي. أما ملف التصدع في جاليات الشرق الأوسط هنا، فليس من اختصاصها. الحاجة ماسة إلى مراجعة ذاتية وإلى عودة إلى تواصل قد تضرر، الشرق الأوسط بحاجة إلى العقلانية والحوار. على ما يبدو، كذلك حال جالياته هنا.

شاهد أيضاً

روسيا التي لا تساند أحداً… علاقة غير عادلة مع إيران

بقلم: يوسف بدر – النهار العربي الشرق اليوم– في مقالته في صحيفة “وول ستريت جورنال” …