الرئيسية / مقالات رأي / محاكمة ترامب وحكم التاريخ

محاكمة ترامب وحكم التاريخ

بقلم: منار الشوربجي – المصري اليوم 

الشرق اليوم – سوف يتوقف التاريخ طويلًا أمام محاكمة ترامب الثانية. فهي ليست محاكمة لترامب بقدر ما هي محاكمة للنظام السياسي بأحزابه ومؤسساته وإعلامه.

فتبرئة ترامب، التي كانت متوقعة، هي آخر تجليات الأزمة العميقة التي تعيشها أمريكا منذ العقد الأخير من القرن العشرين والتي تفاقمت حتى وصلت للذروة في الشهور الأخيرة. فلا الممارسات غير الديمقراطية ولا صعود اليمين المسلح لقلب العملية السياسية وليد اللحظة.

فالبداية كانت مع احتدام الاستقطاب السياسي بمنتصف التسعينيات، والذي غذته عمدًا قيادات الحزب الجمهوري وقتها واعتبرته سبيلها للاحتفاظ بالأغلبية في الكونجرس بل وفي المستويات الأدنى. وقد أدى ذلك لتقويض الأسس الجوهرية التي تقوم عليها المؤسسة التشريعية ذاتها خصوصًا مسألة التوصل لحلول وسط توفيقية لتمرير القوانين. وحولت تلك القيادات الكونجرس لمؤسسة تتركز سلطاتها في أيدي حفنة قليلة من قياداتها بعد أن كان عنوانها اللامركزية. وهي قوضت تدريجيًا جوهر الديمقراطية، حين حولت الطرف الآخر لعدو لا خصم سياسي. فالخصوم يمكن معارضتهم أو التوافق معهم، بينما لا يمكن التعامل مع الأعداء إلا عبر الرفض المطلق والإقصاء والشيطنة كمقدمة لنزع الإنسانية عنهم. وقد انتقل كل ذلك لمستوى أعلى في فترة حكم بوش الابن التي مثلت تهديدًا بالغ الخطورة للديمقراطية. فبدعوى الأمن القومي بعد 11 سبتمبر صارت شيطنة الخصوم معتادة. كل ذلك كان بمثابة جرعات الأكسجين لكل تيارات اليمين المتطرفة للصعود من جديد، وإن حافظ، وقتها، الحزب الجمهوري على مسافة معها، شكليًا فقط، بينما عبر إعلام اليمين عن تلك التيارات بدرجات مختلفة. لكن دعم اليمين المتطرف عمليًا والحفاظ على مسافة معه شكليًا استراتيجية ليست محسوبة العواقب، إذ لا يمكن التنبؤ الدقيق بمآلها. وهو ما حدث فعلًا حين راحت تلك التيارات تهيمن تدريجيًا على الحزب. فكانت حركة حفل الشاي لحظة تاريخية مهدت لصعود ترامب. فهو، وباسم الحزب الجمهوري، استخدم علنًا الخطاب السياسي ذاته لتيارات اليمين المتطرف، ومنحها فرصة ذهبية للهيمنة. وقيادات الحزب، بمنطق انتهازي هدفه الاحتفاظ بالأغلبية، امتنعت عن توجيه أي إدانة لترامب ولا لذلك التيار. وبالمنطق الانتهازي ذاته أدانت قيادات الحزب ترامب، عشية المحاكمة، واعترفت بإدانته ثم صوّتت لتبرئته! فقد هيمنت تلك التيارات حتى صارت قاعدة الحزب الانتخابية التي لا يمكن لأعضائه الفوز دون دعمها.

ومحاكمة ترامب هي في الحقيقة محاكمة لتلك الممارسات كلها. فمحاولة ترامب الانقلاب على الإرادة الشعبية ثم رفضه إدانة العدوان على المؤسسة التشريعية هي قمة جبل الثلج الذي تشكل عبر ممارسات مناهضة للديمقراطية لعقود ثلاثة. فهي حلقة من سلسلة طويلة من حلقات تقويض قيادات الحزب الجمهوري لجوهر العمل المؤسسي والديمقراطي. وهو ما شاركت فيه لاحقًا وبكل قوة قيادات الحزب الديمقراطي هي الأخرى. ولم تدخر قنوات الليبراليين الإعلامية جهدًا في ذلك هي الأخرى!

بعبارة أخرى، فما يقوله الإعلام الأمريكي، اليوم، عن أن الديمقراطية صارت مهددة بمحاولة ترامب الانقلاب على نتيجة الانتخابات ثم اقتحام الكونجرس، يُغفل تمامًا السياق التاريخي الطويل الذى كان الإعلام ذاته، المستقطب هو الآخر، طرفًا فيه عندما تخلى عن دوره الاستقصائي.

تبرئة ترامب، إذن، لن تكون الحلقة الأخيرة في مسلسل انحسار الديمقراطية الأمريكية. والخطوة التالية، وليست الأخيرة بالمناسبة، تستهدف الحق في التصويت، أهم أعمدة الديمقراطية أصلًا. فبعد أن صار واضحًا أن بايدن مدين بفوزه لأصوات السود تحديدًا، يسعى الجمهوريون اليوم وبكل قوة لاختراع المزيد من القواعد لحرمان قطاعات واسعة منهم، ومن غيرهم من الأقليات، من التصويت.

شاهد أيضاً

روسيا التي لا تساند أحداً… علاقة غير عادلة مع إيران

بقلم: يوسف بدر – النهار العربي الشرق اليوم– في مقالته في صحيفة “وول ستريت جورنال” …