الرئيسية / مقالات رأي / جمهورية الفيسبوك… بين الحاكم والمحكوم

جمهورية الفيسبوك… بين الحاكم والمحكوم

بقلم: حسن إسميك – النهار العربي

الشرق اليوم- الفيسبوك هو أحد أشهر تطبيقات التواصل الاجتماعي على مستوى العالم، ونتيجة لشهرته الواسعة، فقد بات مثاراً للجدل وموضع تساؤل، كما انقسم الناس من حوله بين مؤيد ومُعارض. هذا بالطبع من حيث الشكل، أما من حيث المضمون فإن أبعاد هذا العالم أوسع مما نتخيل، تلك هي الفكرة الأساسية التي حملها كتاب “الفيسبوك والفلسفة، بم تفكر؟”، من تحرير دي إي وتركوور، ويضم 25 مقالاً لعدد من المشتغلين بالفلسفة والاجتماع والإعلام والقانون.

تشرح هذه المقالات كيف أغارت مواقع التواصل الاجتماعي، وفي مقدمها فيسبوك، على المبادئ التي تمثل الهيكل العظمي لقيم هذا المجتمع أو ذاك، وأحدثت خروقاً مضت بها الى الزوايا المعتمة والمضيئة التي يتكتم عليها المستخدم، وغير ذلك. كما توضح الأبعاد الشخصية والنفسية والترفيهية لاستخدام فيسبوك، عدا عن أبعاده الاقتصادية والسياسية والاجتماعية إلخ.

وكما تعلمون، ففي البداية جعل الإنترنت من العالم “قرية كونية” كما يقال، وذلك للدلالة على قدرتها الهائلة في ربط العالم ببعضه بعضاً. أما فيسبوك، الذي تجاوز عدد مستخدميه 2.5 مليار، فإنه بات أشبه بجمهورية إلكترونية. فما هي تلك الجمهورية، ما قوانينها، من يحكمها، ومن نحن داخلها؟ إنها أسئلة أرغب بمشاركتكم إياها ضمن هذا المقال.

يمثل تطبيق فيسبوك أكبر منصة للتعبير عن الرأي في العالم، فأنا أعبر من خلاله عن وجهة نظري بالطريقة التي أراها مناسبة من دون أية قيود أو معيقات، وبالمقابل هناك مئات الملايين من الأشخاص الذين يمارسون الفعل نفسه، وتلك خاصية حقيقية تميز بها الفيسبوك. ففي زمن ما قبل وسائل التواصل الاجتماعي كانت الآراء العامة تقتصر على ما يُنشر في الصحف والكتب أو الاحتفالات الرسمية ومراسيم الحكام عدا عن محطات الإذاعة والتلفزيونات، مع وجود عدد قليل من المنصات التي يمكن أن تفرض توجهات محددة، كخطابات الأئمة في المساجد أو القساوسة في الكنائس، على سبيل المثال.

أما اليوم فإن الطبيعة الإعلامية الفريدة المميزة للفيسبوك، والتي يمكن وصفها بإعلام بديل، تجعل منه مجالاً عاماً حقيقياً يسهم أحياناً في توفير ظروف حوار مثالية، كفيلة بتحقيق حراك اجتماعي تقدمي بسبب طريقته في إشراك الجماهير لتشكيل المحتوى الإعلامي. وهذا بالتحديد ما أثّر بشكل كبير في زيادة عدد المشتغلين بصناعة المحتوى الإعلامي. فقد تعددت المنصات وتساوى الناس في قدرتهم على طرح ما يجدونه مناسباً من آراء، مع ذلك فلا بد من الانتباه لعدد من النقاط التي أجدها جوهرية.

تتصل النقطة الأولى بالشكل العام، إذ أن الخطاب الفيسبوكي، رغم سهولة النشر فيه (وليس انتشاره) وإمكانية الوصول إليه بيسر، هو خطاب محدود وغير مؤثر عموماً، فمتوسط عدد الأصدقاء الفيسبوكيين هو 338 صديقاً فقط رغم خاصية السماح بخمسة آلاف صديق، ولا شك أن عدد الذين يصلهم المنشور أو الذين يهتمون بمحتواه هو أقل بكثير. في المقابل نحن نتابع عدداً لا يحصى من الأخبار والمواضيع التي تُنشر بواسطة صفحات ذات تخصص معين أو تعود للمشاهير؛ هذا يعني أن ما نستقبله يشكل أضعافاً مضاعفة لما نرسله. إذن، من حيث المبدأ، لا يزال صوت الفرد داخل العالم الافتراضي كصوته في عالم الواقع.. غير مؤثر، إلا في حالات محددة.

أما النقطة الثانية، فتتمثل في أن نظرة سريعة على قائمة الصفحات الثلاثين الأكثر متابعة على فيسبوك تعطينا مجموعة من المؤشرات الهامة، إذ تشتمل القائمة على 13 صفحة لمطربين وممثلين، و6 صفحات خاصة بكرة القدم (أندية ولاعبين وأخبار رياضية)، و5 صفحات لشركات تجارية (منها سامسونغ وكوكاكولا)، و6 صفحات إعلامية (منها تلفزيون الصين ويوتيوب)، وتتصدرها جميعاً الصفحة الرسمية لفيسبوك بأكثر من 200 مليون متابع. ومن جهة أخرى، فإن جنسيات تلك الصفحات هي كما يلي: 13 الولايات المتحدة، و4 الصين، و3 بريطانيا، و2 إسبانيا، إضافة لصفحة واحدة لكل من كوريا الجنوبية، البرتغال، وكولومبيا، والأرجنتين، وباربادوس، وكندا، وجامايكا، والاتحاد الأوروبي (جميعها صفحات لمغنين أو لاعبي كرة قدم باستثناء صفحة شركة سامسونغ الكورية الجنوبية).

ولا داعي هنا للتذكير بأبعاد هيمنة الولايات المتحدة على نصف القائمة تقريباً، إلا أن المثير للاهتمام هو خلوها من أي اسم يتعلق بالشؤون الثقافية أو العلمية أو الأدبية. وباعتقادي، وقد يخالفني كثيرون في الرأي، أن بيئة فيسبوك مصممة على نحو يخدم توجهات الترفيه والمنافسة والإثارة، أو أنها تسهل انتشارها، أو أن فيسبوك لا يمثل بيئة مناسبة لمناقشة الشؤون الثقافية والعلمية والأدبية ومتابعة تطوراتها.

وتعالج النقطة الثالثة الفكرة الأخيرة، فأنا أعتقد جازماً أن بيئة فيسبوك قد اُعدت لعرض المواضيع السريعة والقصيرة، وبالتالي هي مناسبة لنشر مواد ذات طابع ترفيهي، مثل خبر مؤلف من خمس كلمات وصورة حول حدث رياضي معين كالقول “البرشا يتصدر والريال بانتظار الإياب”. ونشر هذه الحفنة من الكلمات مع عدد من وجوه المشاهير كافية لتسري القصة سريان النار في الهشيم. لكن كلمات خمس أخرى لا يمكن أن تقدم دلالات كافية للإحاطة بتفاصيل خبر حول عمل أدبي أو فني أو علمي، فذلك يحتاج إلى مقال مطول وصبر واناة حتى ينتهي المرء من قراءة مقال حول آخر اكتشافات الفلك أو نظريات الفيزياء، وفيسبوك ليس المكان الأنسب لتداول مواد من هذا النوع. وهنا تكمن النقطة الأساس، وهو التحكم بالذوق العام من خلال المنصة الأكثر شهرة عالمية، والذوق العام مسألة تستحق إفراد مقالات مطولة حولها، ولسنا بوارد الخوض فيها الآن.

هذا يوصلنا الى النقطة الرابعة التي تتعلق بالهوية، وبتساؤلات من قبيل هل أنا في الواقع، هو أنا على فيسبوك؟ وهل الآخر على تلك المنصة هو الآخر ذاته كما أعتقده؟ لا أظن ذلك، فصفحات الفيسبوك تغص بآلاف الأسماء الوهمية، وملايين الحسابات المزورة (الذباب الإلكتروني)، وهو نوع الذباب الأكثر خطورة، إذ يتم توجيه تلك الحسابات لخدمة قضايا بعينها بما يخلق محتويات مضللة ذات أهداف محددة، وغالباً ما يجري إنشاء تلك الحسابات من خلال المؤسسات الاستخباراتية والأمنية العالمية، وهي نقطة نضيفها على مسألة الذوق العام السابقة ونضع أمامها إشارة استفهام جديدة.

وتتناول النقطة الخامسة مشكلة الخصوصية التي تُعد واحدة من قضايا الفيسبوك المثيرة للجدل بامتياز، فتصميمه يشجع على مشاركة أكثر المعلومات حساسية في حياة الأشخاص، كالدين والعلاقات والميول الجنسية الخ، عدا عن تسريب الفضائح المختلفة وقصص التزوير والإشاعات وتهكير الحسابات الشخصية، إضافة لما يقوم به اليافعون والمراهقون من متابعة لحسابات المشاهير وتأثرهم بسلوكياتهم وتصرفاتهم، سواء كان محتواها مناسباً أم لم يكن، بما يخلق صوراً نمطية عامة لجيل بأكمله، إذ أن الرقابة غائبة غياباً شبه كامل في هذه المنصة.

ربما ساعدتنا وسائل التواصل الاجتماعي، وفي طليعتها الفيسبوك، على تجاوز مرحلة الحجر الصحي الذي فرضته علينا جائحة كوفيد-19، لكن هذا لا ينفي جملة المشكلات الكبرى التي يخلقها، وتضع علاقاتنا الاجتماعية وصحتنا النفسية في خطر داهم، فناهيك عن اختراق الخصوصية، وبيع معلومات المشتركين لأطراف ثالثة ومشاركة بيانات المستخدمين من دون موافقتهم، غيّرت المنصة الرقمية تجربة الحياة اليومية. ولعل الفيسبوك هو أسرع طريقة للانخراط في المقارنة الاجتماعية، مع مظاهر قد تكون في معظمها كاذبة، لكنها تشكل لدى الكثيرين شعوراً بالنقص وعدم الإنجاز. ووجدت دراسة أجراها الكاتبان هوي تزو غريس تشو ونيكولاس إيدج (2012) أن مستخدمي الفيسبوك الأكثر مواظبة عليه يميلون إلى الاعتقاد بأن الآخرين يعيشون على نحو أكثر بهجة منهم، ما يجعلهم يشعرون أن الحياة أقل عدلاً، بالإضافة إلى التأثير السلبي الكبير لمشاعر الحسد التي تنتابهم.

من الأمور الأخرى بالغة الخطورة هو ما يخلقه الفيسبوك من شعور خادع بالموافقة أو الإجماع. فخورازميته تعرض أمام عينيك ما يناسبك ويشبه اهتمامك من المنشورات، وتقترح لك أشخاصاً يشبهونك في اختياراتهم وتفضيلاتهم الأمر الذي قد يشوّه نظرتك إلى العالم. إذ قد يقود هذا إلى الاعتقاد بأن رأينا هو الأصح، واختيارنا هو الأفضل، بدءاً من المسلسل التلفزيوني الذي نحب وصولاً ربما إلى المرشح السياسي الذي نؤيده. هذا الإجماع الذي قد نحصل عليه من أصدقائنا الافتراضيين قد يصمّ آذاننا عن سماع أصوات أصدقائنا الحقيقيين.

تعيد الهواتف الذكية، وتطبيقات التواصل الاجتماعي وعلى رأسها الفيسبوك، تعريف العلاقات الحديثة، فقد أضافت حالة اجتماعية جديدة يمكن التعبير عنها بمصطلح “وحدنا معاً”، نستطيع بفضله ضبط استخدامنا لهذا الموقع وغيره لكيلا يتحول إلى إدمان.

في الحقيقة لا أهدف من مقالي هذا إلى تقديم إجابات، فكما أشرت آنفاً لا توجد إجابات شافية على هذه الاسئلة، وربما يحفز كتاب “الفيسبوك والفلسفة، بم تفكر؟”، المهتمين على التفكير بشكل أعمق بهذه القضايا، فكلّ ما أهدف إليه هو تسليط الضوء على أهمية هذا التطبيق ذي الاستخدام اليومي في حياتنا، وخطورته في الوقت ذاته.

فرغم إدراكي لكثرة النقاط الإيجابية التي يتمتع بها فيسبوك، إلا أنني أوصي بالتفكير المتأني الذي يرمي لمعرفة ماذا نستهلك؟ وكيف نستهلكه؟ فهي مسائل هامة وضرورية للتوقف عندها، كوننا نرغب بأن نستخدم مواقع التواصل الاجتماعي لا أن نسمح لها بأن تستخدمنا لتحقيق أغراض سياسية واقتصادية وثقافية، على أمل أن نتمكن من خلق تطبيقات عربية منافسة ذات محتوى أنسب لبيئتنا الثقافية والاجتماعية.

شاهد أيضاً

طوكيو المثيرة للدَّهشة

بقلم: عبد الرحمن الراشد- العربيةالشرق اليوم– تردَّدت على زيارة اليابان منذ التسعينات، ولا تزال تثير …