IRAQI WOMEN CARRY A GIANT FLAG DURING IRAQI PRESIDENT SADDAM HUSSEIN'S BIRTHDAY CELEBRATIONS IN TIKRIT. Iraqi women carry a giant flag during Iraqi President Saddam Hussein's birthday celebrations in his hometown of Tikrit, 170 kilometres north of Bagdad, April 28, 2002. Faced with U.S. threats
الرئيسية / مقالات رأي / الوطنية العراقية.. التراجيديا والفكاهة

الوطنية العراقية.. التراجيديا والفكاهة

بقلم: رستم محمود – الحرة

الشرق اليوم- لا تخلو حلقة واحدة من البرنامج الكوميدي الأكثر شعبية في العراق “البشير شو” دون غمزٍ أو إشارة من مُقدم البرنامج إلى الزعيم السياسي الكردي العراقي، مسعود بارزاني، من باب ما يعتبره البرنامج “عدم وطنية” بارزاني، الذي هو حسب مضامين البرنامج “لا يُحب العراق” ولا يوالي “الوطنية العراقية”، حيث أن تلك “الوطنية” وما يتبعها ويردفها من قيم ومُعتقدات التي يتبناها البرنامج، إنما هي حقائق وبداهات مطلقة، وتالياً فإن الخروج عنها هو مصدر للاندهاش والفكاهة، حسب البرنامج. 

في هذا السياق، وحينما يتناول البرنامج سلوكيات وخيارات بارزاني السياسية، فإنه لا يقول ذلك عن عموم أكراد العراق، فقط لتجاوز حرج التعميم. فمُقدم البرنامج ومُعدوه يعرفون جيداً بأن آراء البارزاني ومواقفه تمثل الطيف الأوسع من الأكراد العراقيين، المتوافقين معه بشكل جمعي شبه مطلق على النفور من شكل علاقة إقليم كردستان ومواطنيها بالدولة العراقية، الدولة العراقية المفروضة عليهم بالقوة المحضة، بمؤسساتها ومواثيقها ورموزها. وحيث حتى أشد معارضي بارزاني في الملفات الداخلية الكردية، إنما يطابقونه في ذلك.

يمثل البرنامج الفكاهية هذا ويؤثر على مئات الآلاف من المواطنين العراقيين، بالذات من شُبان الطبقات الوسطى، تحديداً ذلك النسيج المجتمعي الحيوي المؤلف من سُكان المدن من أصحاب التحصيل التعليمي الرفيع والواردات المالية الوافرة، الذين يُمكن نعتهم بـ”الطبقة الوسطى المدنية”.

يتبنى هؤلاء أغلب مضامين ذلك البرنامج الكوميدي الساخر، بالذات من حيث نزعته لمناهضة الفساد والصراعات الطائفية في البلاد، وهو أمرٌ بيّنٌ يظهر جلياً في تفاعلاتهم وتعليقاتهم المكثفة على حلقات البرنامج من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.

لكنهم خلال تلك المناهضة للفساد والطائفية، إنما يتمركزون حول ما يعتبرونها قيمة سياسية ونفسية وأخلاقية عُليا، هي “الوطنية العراقية”، التي يروجها ويدعو إليها البرنامج بكثافة، كبداهة أولية شديدة الطهرانية، صالحة للتحول إلى بارومتر يُمكن قياس الشخصيات السياسية والثقافية والاقتصادية حسبها، فرزهم بين صالح وطالح.   

حسب تلك الوتيرة، فإن هذا البرنامج الحيوي، المُنتج للأفكار والتصورات العامة لمتابعيه، والمتميز بكل سمات الحس المُرهف، وعلى العكس من كل ذلك، فإنه يختلق ويروج لقضيتين غارقتين في القسوة.

تقول الأولى إنه ثمة شيء بديهي ومُطلق، هو “الوطنية العراقية”، محاطة بكل هالات الطهارة والقداسة المُطلقة. وأن ذلك الشيء يجب أن يكون حاضراً وفاعلاً في حيوات كل الأفراد العراقيين، مثل ممارسات وخيارات حياتهم اليومية الأخرى، التي لا يُمكن العيش دونها. 

أما الثانية، فهي تخويل وحكر جهة ما لنفسها حق تحديد وتأطير واستخدام تلك “البداهة”، فهي تفرز المعايير والمفاهيم والخطابات والأحداث التي تعتبرها مقياساً لغولٍ غير مرئي هو “الوطنية”. 

مصدر القسوة في ذلك، كامن في أن الوطنية المفترضة تلك، إنما تلعب حقيقة وتنتج نفس الديناميكيات التي تبنتها وأفرزتها القومية العربية السياسية تقليدياً في العراق، وما تلاها وطابقها من إسلام سياسي طائفي في مراحل لاحقة. 

فمثلهما تماماً، تعمل هذه الوطنية على تطييف أبناء شعب العراق إلى طبقة متفاوتة من الطهرانية والصلاح والجدارة. وحيث أن الانتماء والعضوية في الطبقة “الوطنية”، وحسب مخيلة وطروحات من يعتبرون أنفسهم “مركز الوعي الوطني”، إنما تتطلب من الآخرين مجموعة من الالتزامات الخطابية والسلوكية والسياسية، التي تسمح لهم بنيل تلك المكانة. شيء يشبه مؤسسات السيطرة وديناميكيات الهيمنة التي كانت تستخدمها نزعتا القومية البعثية والإسلام السياسي الطائفي في العراق طوال عقود طويلة مضت، ولم تنتج إلا بُحوراً من الدماء في كل بيت عراقي. 

تنتمي الوطنية العراقية إلى إرث الصلابة والقسوة العراقية، لأنها تعتبر الكيان العراقي بداهة مطلقة، سابقة وذات أولوية على المجتمع والتكوينات الأهلية العراقية وحقها المطلق في اختيار ما يناسبها من مصير، دون هالة التكفير الرمزي أو التخوين السياسي أو التشبيح العنيف، ومن أي جهة كانت. الوطنية صلبة، لأنها تطلب من المجتمعات أن تلهث وتضحي لأن تكون مُطابقة لقداسة الكيانات والمخيلات الأيديولوجية. 

فإذا كان برنامج كوميدي يحتفي ويستبطن مثل تلك المفاهيم والنزعات، فالأكيد أن باقي مؤسسات الدولة والقوى السياسية في البلاد إنما تقدس ذلك المفهوم، وتعتبره تمثيلاً للطهرانية والقيم النبيلة.

لكن منتجات الحداثة تقول شيئاً مغايراً لذلك تماماً. فالبرامج الكوميدية يليق بها السخرية من الوطنيات والوطنيين. لأن الوطنية ببساطة هي البناء الروحي والعقلي والخطابي لأكثر الطبقات الاجتماعية محافظة وعنفاً ومركزية حول الذات، والأكثر ميلاً للاعتداد المجوف بالذات الجمعية، وحيث تنتج تلك الذات الجمعية المجوفة ما يناظرها من ذوات فردية تماثل الذات الجمعية تجويفاً واعتداداً أرعناً بالذات، بالأخص من السياسيين والشخصيات العامة، فتذهب الفكاهة لاصطياد تلك الذوات، عبر السخرية منها وتحطيم ما تبنيه من قِلاع كرتونية حول نفسها، تكشف خواءها وتهافت مضامينها، التي لا تحتوي شيئاً خلا الخطابية الشعبوية. 

تجاوزاً لكل ذلك، وحتى لو افترض المرء أنه ثمة وطنية عراقية ما، متمثلة بالعراق كدولة ذات مؤسسات مدنية ديمقراطية، على العراقيين أجمعين أن يوالوها، فإن هذا المرء يجب أن يسأل سؤال بديهياً: أين هي تلك الدولة العراقية المتخيلة، وفي أي أفق منظور يمكن تحقيقها. وإذا كان حال العراق على ما هو عليه، من عنف وهيمنة رعناء للفصائل المسلحة على الحياة العامة، إلى جانب الفقر والنهب العام وتحطم التعليم وانهيار القطاع الصحي، فهل من نبالة من أن يخلص المرء من كل ذلك، فيما لو استطاع، وإن كان متجاوزاً ومُحطماً لكل وطنية متخيلة.  

شاهد أيضاً

أيهما أخطر؟

بقلم: محمد الرميحي – النهار العربي الشرق اليوم- جاء الزمن الصعب لنسأل أنفسنا: أيهما الأكثر …