الرئيسية / مقالات رأي / تركة ترامب ثقيلة لأمريكا

تركة ترامب ثقيلة لأمريكا

الشرق اليوم- بدأ دونالد ترامب ولايته بالتعهد بإنهاء حقبة الركام والاشلاء التي خلّفها اسلافه كما ادعى، ووعد بسياسات جذرية يحركها الغضب من نخبة سياسية-ثقافية ليبرالية حاكمة، ونظريات المؤامرة التي تدعّي أن هذه النخبة التي تؤمن وتدعو الى التعددية السياسية والثقافية قد لوثت المفهوم الاصلي للولايات المتحدة كدولة خلقها العرق الأبيض الأوروبي المسيحي، وأنه آت لإحياء هذا المفهوم وصيانته، حتى ولو اضطر لاستخدام وسائل غير ديموقراطية. وخلال السنوات الأربع الماضية اتسمت سياسات ومواقف ترامب بالعنصرية والممارسات الأوتوقراطية والاستخفاف بالتقاليد والاعراف الديموقراطية للبلاد بما في ذلك مهاجمة القضاء المستقل والصحافة الحرة. واعتمد سياسة خارجية انعزالية نبذت الأحلاف والمنظمات الدولية التي أنشأتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية واستخدمتها الى حد كبير لتأكيد وتعميق  نفوذها كدولة عظمى. وأنهى ترامب ولايته بما يمكن وصفه بـ”مهرجان” دموي وفوضوي في معبد الديموقراطية الأمريكية المعروف باسم الكابيتول، قلب الكونغرس الأمريكي.

لم يحدث في تاريخ الجمهورية الأمريكية الذي يزيد عن قرنين ونصف أن حرّض رئيس أمريكي علنا انصاره على اقتحام صرح الديموقراطية الأمريكية وتهديد ممثلي الشعب، خلال قيامهم بالتصديق على انتخاب خلفه. الاجتياح وأعمال الشغب والعنف عطلت أعمال الكونغرس لبضعة ساعات فقط. ولكن صور “يوم العار”، مثل الاعتداء على الشرطة وقتل أحدهم، والمشرعين يهربون في اتجاه الملاجئ والانفاق، ورجال الشرطة السرية رافعين مسدساتهم، وأعمال السرقة وتخريب مكاتب النواب، وصور الرعاع المدهونة وجوههم بألوان العلم الأمريكي (احدهم ارتدى خوذة مزينة بقرنين وكأنه محارب من الفايكينغ)، والذين حملوا علم الكونفدرالية العنصري، وصور ترامب، هذه الصور سوف تبقى حاضرة في الذاكرة الجماعية للأمريكيين لوقت طويل.

منذ خسارته للانتخابات، وهي حقيقة لا يزال يرفض الاعتراف بها، وترامب يعيش في عزلة تزداد مع مرور كل يوم، حيث تخلى عن القيام بمعظم واجباته الرسمية، وبدأ بحياكة المؤامرات لاقناع انصاره بان الديموقراطيين وأعدائه في “الدولة العميقة” سرقوا الرئاسة منه واعطوها لجوزف بايدن.

ازدياد عزلته، زاد من هواجسه وتطرفه وغضبه ما جعله مصمما على التخلص من أي مسؤول انتخابي لا يشاطره هواجسه ولا يوافق على ادعائه بأن الانتخابات كانت مزورة . انصار ترامب المتعلقون به كرئيس  لطائفة من الغلاة الأمريكيين، يؤمنون بكل ما يقوله، وهذا ما عزز من قناعته بأنه محصّن ضد متطلبات الديموقراطية الأمريكية ومن بينها قبول نتائج الانتخابات ومعها تقليد تناوب السلطة السلمي وغيرها من القوانين والأعراف والتقاليد. وكما فعل منذ انتخابه حين نبذ معظم المسلمات السياسية والتقاليد، رفض ترامب بقوة نتائج الانتخابات وسعى بكل وسيلة ممكنة قانونية وغير قانونية للتلاعب بنتائج الانتخابات، والاتصال بالمشرفين على الانتخابات في الولايات المختلفة لترغيبهم، وفي معظم الحالات ترهيبهم للسير معه على طريق الأوهام. ووقف معه عدد هام من المشرعين الجمهوريين الى حين إعلان نتائج انتخابات المجمع الانتخابي في 14 كانون الأول (ديسمبر) الماضي التي أعلنت أن بايدن هو الرئيس السادس والأربعون للولايات المتحدة، وعندها بدأت الصورة تتغير تدريجيا، حين أعلن زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ السناتور ميتش ماكونل تهنئته للرئيس المنتخب بايدن.  ولكن ترامب حافظ على نسبة هامة من تأييد الجمهوريين في المجلس، الذين سجلوا اعتراضهم على قرارات المجمع الانتخابي في ولايات مثل بنسلفانيا وجورجيا وغيرها.

ولكن اجتياح الكابيتول غيّر القناعات والمسلمات والحسابات وعمّق من غضب الديموقراطيين وسخط المواطنين العاديين، وحتى من أعضاء جمهوريين في الكونغرس من ترامب واحتقاره للمؤسسات والتقاليد الديموقراطية. ووجد الرئيس ترامب نفسه في الأيام التي تلت الأربعاء الذي هز الولايات المتحدة معزولا أكثر من أي وقت مضى، فيما وزراءه ومساعديه يتخلون عنه ويحملونه مسؤولية العنف. ويوم أمس الاول طالبت  ليسا ميركاوسكي التي تمثل ولاية الاسكا في مجلس الشيوخ  الرئيس ترامب بالاستقالة وأصبحت بذلك أول سناتور جمهوري يطالب باستقالة الرئيس.

وكان السناتو الجمهوري بنيامين ساس قد قال أنه منفتح على محاكمة وإقالة ترامب، ولحقه أمس السناتور الجمهوري بات تومي الذي قال أن ترامب ارتكب انتهاكات تستحق المحاكمة.  جاء ذلك بعد أن هددت رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، بمحاكمة ترامب مرة ثانية خلال سنة واحدة الا إذا استقال فورا من منصبه، وحضت القادة الجمهوريين على ارغام ترامب على الاستقالة. ولكنها لم تنتظر الجمهوريين وطلبت من  اللجنة القانونية في المجلس صياغة اتهام واحد لترامب: التحريض على العصيان. وقال مسؤولون في البيت الأبيض أن ترامب ومساعديه بدأوا بتشكيل فريق المحامين الذي سيدافع عنه. 

هذه التطورات تأتي على خلفية مخاوف متزايدة في أوساط الحزبين من ما يمكن أن تحمله الأيام المتبقية لترامب في البيت الأبيض من مفاجآت قد تكون مكلفة للغاية، وأيضا تأكيد مبدأ محاسبة المسؤولين، مهما كانت مناصبهم بارزة، إذا ارتكبوا انتهاكات سافرة كما فعل ترامب. أيضا محاكمة ترامب في مجلس النواب وإقالته عبر مجلس الشيوخ – إذا تمت – سوف تلحق ضربة سياسية قاضية بترامب لأن إقالته سوف تحرمه من العمل السياسي مثل الترشح لولاية ثانية في 2024. وهناك تيار في الحزب الديموقراطي بدأ بالضغط على الرئيس المنتخب جوزف بايدن لكي يبدأ ولايته بتحقيقات قضائية بممارسات وسلوك الرئيس ترامب وكبار مساعديه، بغض النظر عن محاكمته واحتمال إقالته.

واتهمت بيلوسي الرئيس ترامب بأنه يشكل خطرا على البلاد لأنه مختل، وغير متوازن عقليا. وانطلاقا من هذه المخاوف قامت بخطوة غير اعتيادية حين اتصلت  برئيس هيئة الأركان العسكرية المشتركة الجنرال مارك ميلي وناقشت معه الاحتياطات التي تمنع الرئيس “المضطرب عقليا” كما ذكرت فلي رسالة الى الأعضاء الديموقراطيين في المجلس من بدء إجراءات عسكرية من جانب واحد أو استخدام المفاتيح النووية والتهديد بهجوم نووي. وقالت مصادر مقربة منها: إنها سمعت ما يطمئنها من الجنرال ميلي.

ويوم الجمعة أصبحت عزلة ترامب شاملة ومحبطة بشكل غير معهود، حين قامت شبكة تويتر بإغلاق حسابه بشكل نهائي، بعد أن أغلقته مؤقتا في الأيام الماضية، وذلك في خطوة استباقية لكي لا يستخدم حسابه لتحريض أنصاره على ارتكاب أعمال عنف جديدة. وقامت شركة فايسبوك وانستغرام بإجراءات مماثلة. وللمرة الأولى يجد دونالد ترامب نفسه منفيا من العالم الافتراضي الذي استغله بفعالية كبيرة لتعبئة أنصاره وللوصول الى أكثر من 88 مليون شخص يتابعونه على  تويتر. وكان ترامب يستخدم حسابه على شبكة تويتر كأهم “مايكروفون” سياسي متوفر له.

وقبل نفيه من شبكة تويتر كان ترامب قد أعلن في تغريدة أنه لن يشارك في حفل تنصيب الرئيس المنتخب جوزف بايدن في العشرين من الشهر الجاري، وهو قرار رحب به بايدن الذي قال: إن أداء ترامب الذي أحرج الولايات المتحدة في العالم كان أسوأ بكثير مما توقعه.

وعلى الرغم من المخاوف من احتمال حدوث أعمال عنف خلال تنصيب الرئيس بايدن في العشرين من الشهر الجاري، إلا أنه يصر على الادلاء بقسم اليمين ومخاطبة الأمريكيين، من المكان التقليدي لهذا الحفل أمام مبنى الكابيتول.

لا أحد يعلم ما الذي سيحدث في الأيام القليلة المتبقية من ولاية ترامب. قد يستقيل، وقد يحاكم، وإن كانت إقالته صعبة خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة، وإن كان بالإمكان محاكمته في مجلس الشيوخ حتى بعد انتهاء ولايته. ولكن بغض النظر عن هذه الإجراءات القانونية، فإن “تركة” ترامب سوف تتلخص بهذا الأسبوع الذي حرّض فيه رعاعه على تدنيس معبد الديموقراطية الأمريكية، وفظاعة هذا الانتهاك وصوره البشعة التي ستصبح معلما قاتما في التاريخ الأمريكي.

المصدر: النهار العربي

شاهد أيضاً

لبنان- إسرائيل: لا عودة الى ما قبل “طوفان الأقصى”

بقلم: علي حمادة- النهار العربيالشرق اليوم– تسربت معلومات دبلوماسية غربية الى مسؤولين لبنانيين كبار تشير …