الرئيسية / مقالات رأي / الإسلام.. والمسألة السياسية!

الإسلام.. والمسألة السياسية!

بقلم: عبدالرحمن علي البنفلاح – أخبار الخليج البحرينية

الشرق اليوم- من أوضح القضايا التي فيها ردٌ حاسم على دعاة فصل الإسلام عن حركة الحياة -وهم الذين يُطْلَق عليهم «العَلْمانيون»- رعاية الإسلام وعنايته بالمسألة السياسية.. هذه المسألة فيها تفنيد واضح لحجج العَلْمانيين وبراهينهم التي قد تبدو في نظرهم قوية لا تدحض، وهي أوهن من بيت العنكبوت.

لقد قرر القرآن الكريم في العديد من آياته وسوره أن هذا الدين إنما جاء لينظم حركة الحياة، ويرسم الحدود التي يجب عدم تجاوزها أو عدم الاقتراب منها، وأكد القرآن أنه ليس كتابًا عاديًا يتلهى المسلمون بقراءته وقضاء أوقات مسلية معه، بل هو كتاب جمع بين المعجزة والتشريع، وهو المرجع الوحيد الذي يستدل به أصحاب الأديان الأخرى على صحة ما لديهم من نصوص دينية يزعمون أنها من الوحي المقدس، ثم هو برنامج عمل سياسي يلتزم به الحاكم والمحكوم، إذ ينظم الحقوق والواجبات، ويأخذ على أيدي المستبدين حتى لا يجوروا على شعوبهم، ويتلاعبوا بمصائر هذه الشعوب. يقول الحق سبحانه وتعالى في تقريره لهذه الأمور، والعناية بها: «وأنزلنا إليك الكُتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكلٍ جعلنا منكم شرعة ومنهاجا…» المادة/48.

لقد جمع القرآن في شمولية بين المعجزة والشرعة والمنهاج، ومن أجل كل هذا كان وسيظل محل رعاية الله تعالى وعنايته وذلك حين قام بحفظه جملة وتفصيلا، قال سبحانه: «إنَّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» (الحجر/9)، كما صانه عن أي تحريف أو تزييف، فقال جل جلاله: «…وإنه لكتاب عزيز (41) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (42)» فصلت.

إذًا، فلم يكن من دواعي حفظ القرآن وصيانته مجرد أنه نص مقدس يؤجر المسلمون على تلاوته وتجويد آياته وسوره، بل السبب وراء كل هذه العناية بالقرآن هو أنه منهج حياة، وأنه مرجع يرجع إليه أصحاب الأديان لمعرفة أخبار أنبيائهم وما جرى لهم مع أقوامهم.. إنه كتاب ضم تاريخ البشرية في الماضي والحاضر والمستقبل، لهذا قال الحق سبحانه وتعالى: «نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين» يوسف/3.

وهذه القصص ليست للتسلية أو لإضاعة الوقت، بل هي دروس ومواعظ يتأسى بها رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم)، ويتعلم منها المسلمون ما يصلحون به شأنهم، وما يستعينون به على إصلاح كافة أمور حياتهم.

إذًا، فالإسلام وفق مصادره الأصلية -القرآن والسنة- ليس مقصورًا في تعاليمه على تنظيم العلاقة بين الخالق سبحانه وخلقه، بل مع هو معني بتنظيم علاقة المسلم مع الوجود كله، ومع نفسه أولاً، فإذا استقامت علاقة المسلم مع نفسه صلحت له أموره كلها. والقرآن لأنه كتاب تشريع ومنهاج، وأن هذا المنهاج وتلك الشريعة لا يمكن أن يؤديا دورهما إلا في ظل دولة تنظم العمل تشريعًا ومنهاجا، وليست الأمور متروكة للناس كل يطبق وفق فهمه وهواه، وفِي القرآن الكريم إشارات واضحة الدلالة على اهتمام الإسلام ورعايته للجانب السياسي في تشريعاته، وفِي قصة ملكة سبأ ما يؤيد قولنا هذا حينما تحدث القرآن العظيم عن قصة هذه الملكة ونبي الله سليمان (عليه الصلاة والسلام) عندما نقل إليه مندوبه الدائم -الهدهد المتخصص في نقل أخبار الأمم- خبر ملكة عظيمة تملك شعبًا لا يؤمن بالله العظيم «…الذي يخرج الخبء في السموات والأرض…» سورة النمل/25.

بدأت المشاورات بين ملكة سبأ وشعبها، وفوضوها في إدارة هذه الأزمة التي تهدد مصير المملكة وشعبها، وقص علينا القرآن العظيم ما دار في هذه المشاورات، وما تلاها من المراسلات بين الملكة ونبي الله سليمان (عليه الصلاة والسلام)، قال تعالى: «قالت يا أيها الملأ إني أُلقيَ إليّ كتاب كريم (29) إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم (30) ألا تعلوا علي واتوني مسلمين (31) قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرًا حتى تشهدون (32) قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين (33) قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون (34) وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون (35)» سورة النمل.

إذًا، فملكة سبأ ملكة دستورية تشارك شعبها بالمشورة كحق من حقوق شعبها عليها، وهي لن تتخذ قرارًا حتى يشاركها شعبها فيه، والقرار الذي اتخذته وأيدها شعبها فيه يدل دلالة واضحة على مدى رجاحة عقلها، ونضجها السياسي، فبالنسبة إلى القوة العسكرية هي جاهزة، وبقي القرار السياسي الذي تدعمه القوة العسكرية، وتأييد شعبها لها والوقوف إلى جانبها، فهم قادرون على المواجهة العسكرية، وبقي القرار السياسي الصائب الذي يضع القوة في المكان والزمان المناسبين لها.

وهكذا بدأت ملكة سبأ إدارة هذه الأزمة الخطيرة دبلوماسيًا إذ أرسلت الهدية العظيمة إلى نبي الله سليمان، فلما ردها مشفوعة بالتهديد والوعيد، وبحسب ما توقعته من عموم الملوك علمت أن هذا الملك ليس من جنس الملوك الطغاة، بل هو ملك مؤمن يدعو الناس إلى عبادة الله تعالى وحده، وكانت النتيجة التي تمخض عنها هذا القرار الحكيم من ملكة حكيمة هي قوله تعالى: «…قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين» النمل/44.

لقد قرر الإسلام مبادئ لا يمكن تحقيقها إلا من خلال دولة بالمفهوم العصري الحديث للدولة.. قرر العدل، وحرية التعبير، وعدم العبث بمقدرات الشعوب، والحرص على المال العام حينما حرم السرقة، والرشوة، ولأول مرة في التاريخ تجعل الدولة الإسلامية من الأمة رقباء على الحكام وليس العكس، وسمعنا حاكمًا صالحًا يؤكد نزاهته في إدارة أموال الأمة، فيقول: «أنا في أموالكم ككافل اليتيم إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف» عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

إذًا، ومن خلال هذا الأنموذج الذي قصه القرآن العظيم علينا ندرك أن الإسلام لم يأت لينعزل في المسجد، ويدع أمور الناس لشهوات النفس الأمَّارة بالسوء لبعض الحكام يشرعون ما يحقق لهم شهواتهم، بل هو تدخل منذ البدء لينظم حركة الحياة، ويسدد خطى البشرية الضالة.. هذا هو موقف الإسلام من المسألة السياسية تعرضنا له بإيجاز شديد، ومن يطلب المزيد فعليه أن يتدبر آيات القرآن العظيم لمعرفة ذلك المزيد.

شاهد أيضاً

الأردن: معركة محور التّطرف!

بقلم: محمد صلاح – النهار العربي الشرق اليوم- ليس سراً أن مصر والأردن خسرا كثيراً …