Anti-government demonstrators take pictures of a metal sculpture spelling out the word "revolution" topped by flames during a protest as Lebanese mark one year since the start of nation-wide protests, near Beirut's port, Lebanon October 17, 2020. REUTERS/Mohamed Azakir TPX IMAGES OF THE DAY
الرئيسية / الرئيسية / الثورة والثورة المضادة، الجولة والمعركة

الثورة والثورة المضادة، الجولة والمعركة

بقلم: حسن منيمنة – الحرة

الشرق اليوم- لولا “ثورة 17 تشرين” لصحّ القول بأن لبنان فشل عند مئويته. مئة عام من الوعد بأن يكون لبنان “وطنا لمواطنيه”، لا إسرائيل المسيحيين، ولا صيغة مرحلية بانتظار استيقاظ المارد القومي، مهما كانت صفته وهويته. مئة عام قلّ أن يلتزم أي طرف لبناني طوالها بمضمون الوعد ومقتضاه، وإن أتخمه تأييدا في زجلياته. مئة عام من الجدلية بين إقطاعية متجددة متسلحة بأدوات عريقة من التعبئة الفئوية على أشكالها، الطائفية في مقدمتها، وبين مجتمع استوعب بما يقارب الفطرة أن الوعد، والذي يخرج لبنان من كثرة الدول المرغوب عنها ويدخله في قلة المرغوب بها، يشترط اصطفافا “أفقيا” يحوّل الأنظار والاهتمام والترابط من المواطن باتجاه غيره من المواطنين، وينتهي من الانتظام “العمودي” الذي يجعل من الزعيم، عند قمة العمود، محط النظر ومرتجى النعمة ومخشى النقمة.

مئة عام من المحاولات الغافلة والواعية لخفض النظر بما يرفع الرأس، بعضها بأسماء أحزاب علمانية، في هواها جهارا وفي سلوكها ارتباكا، كلها كانت متلكئة قبل أن تمسي طلقات وحسب في زناد نقيضها. مئة عام من شذرات زعامات صادقة صارحت الملأ بأن العدل والحق يفرضان عليها القول والفعل بما يخالف مصلحتها، قبل أن تعود هذه المصلحة لتحكم الأقوال والأفعال، والنوايا، من باب اللحاق بالركب الجارف.

مئة عام من الاحتلالات، كلّ واحد منها جاء استدعاؤه نكاية وحماية، قبل أن يثقل حمله ليمسي الداء بعد أن كان الدواء.

ليست ثورة 17 تشرين حدثا عابرا، وإن أغرقها الإعلام الخصم بكل ما أوتي من تحليلات طاعنة

دخل لبنان عام مئويته، في سبتمبر العام الماضي، وهو يكاد أن يسلّم بأن ذكاء الاحتلال الأخير، عميق النفس وجميل الصبر، قد مكّنه من إحكام القبضة على الطبقة السياسية، الإقطاعية في أصولها، نسبا وانتسابا، والنهّابة في سلوكها. بل قد ضيّق خناقه من خلال هذ الطبقة على الوطن بأمسه ويومه وغده. “غطّوا سلاحنا نغطّي فسادكم”. هذا وذاك، كل على حدة، قد حكم على لبنان بالفناء. سلاح يتراكم واستكبار يفيض وأوهام قوة غيبية، مآلها المحتوم الحرب والموت والدمار. وفساد يستولي على أموال المقيم والمهاجر، ويستنزف دماء أجيال لم تلد، نهايته الموصوفة الانهيار والعوز والإفلاس.

ثم كانت الثورة. قامت وارتفعت وهمدت على وقع أصعب عام من تاريخ لبنان.

لخصومها من المراجع العلمية والمعيارية، على ما يبدو، ما يكفيهم لأن يرفضوا التصنيف. هي ليست مكتملة كافة الأسس والمقومات لتستحق التسمية. كل من هؤلاء يحمل أطروحة تسرد المراحل وتفصّل المفاهيم. يأتي إلى الخاطر هنا التنظير الذي تشدّق به أحد نزلاء “نزل السرور”، المسرحية التي كادت أن تكون إرهاصا للحروب اللبنانية التي تلتها في الربع الأخير من القرن الماضي، معترضا على ارتجالية الثورة في زمنه، ليدرج سلسلة متاولية من العناصر الواجبة الغائبة، جديرة بألا تبقى في الذاكرة، ولا تخلّف وراءها إلا شكل المعطوفات المتتابعة بحرف الفاء، إذ يصبح هذا الحرف لازمة من يستمع إليه. فـَ … فـَ … فَـ …

نعم، “ثورة تشرين” لم تنتج إلى اليوم قيادة، والتشكيلات العديدة التي ولدت من رحمها غالبها تمسّك بالتقاليد اللبنانية العريقة من التشظي والتناطح والتآكل.

ثم شاء القدر الأعمى أن يرجمها بوابل من المصائب، ليس أقلها الجائحة والضائقة الاقتصادية العالمية، ثم الانفجار الكبير، والذي ضرب البيروتيين بملاذيهما الآمنين. بيوتهم، والتي كشفها واعتدى على خصوصيتها وحطّم فيها ما جمعه أصحابها على مدى العمر من أغراض، ثمينة في أرواحها قبل أجسادها. ومطاعمهم وحاناتهم في هذه الأحياء القليلة الجميلة من المدينة الغارقة بالنفايات المادية والمعنوية، والتي كان ارتيادها ينسيهم أنهم يعيشون في جحيم وطن وجحيم جوار وجحيم عالم.

ولكن الثورة أفاقت اللبنانيين، بعضهم، جلّهم، كلّهم، إلى أن الطغمة الحاكمة ليست حتما ولا حتفا، بل هي أشكال منفوخة قابلة جميعا لأن تنفّس، تُنزل من قصورها وتُخرج من مخابئها، وتعود إلى مصاف البشر المائتين.

نقيض شعار “كلّن يعني كلّن” هو في هذا التنويه الذي يفضّ الشعار، كما في البلاغة المضمرة التي يجسّدها شعار “شيعة، شيعة، شيعة”

المواجهة في لبنان ليست بين تآلف القوة القاهرة ومنظومة النهب الممنهج، إزاء المجتمع التوّاق إلى بناء دولة الوطن لمواطنيه. ليتها كانت كذلك. بل المواجهة هي بين هذه الطغمة الحاكمة، سرّا وجهارا، ومعها أوساط عديدة، مستفيدة طمعا وجشعا أو مستجيرة خوفا وهلعا، إزاء أضغاث رؤيا، جميلة دون شك، ولكنها لا توحي بالاستقرار والاطمئنان، فيما من ينادي بها يتقلب بين نور الملائكية وظلال الريبة.

قلّة هم اللبنانيون الذين لا يريدون لوطنهم أن يرتقي من رداءة الزبائنية وإذلال التبعية إلى الصيغة التي تشرّف الفرد والجماعة. على أن الانتقال من الإجمال إلى التفصيل يكشف الخلاف. ذلك أن الإدانة والتي تشمل الجميع، بإجماع الجميع، هي دوما أقل حدة لكل منهم في حالته الخاصة. أي أن الزعماء كلهم فاسدون، على أن فساد زعماء الآخرين هو في الأصل الخبيث والجوهر الخسيس، أما فساد زعيمي، الطيّب السمح، فمن باب الاضطرار والإكراه. والتبعية لكل دول الخارج مرفوضة، على أن ولاء زعماء الآخرين لدول الشر خيانة مفضوحة ونشوز جلي، فيما اصطفاف زعيمي مع قوة الخير خارج الحدود فلتحقيق التوازن وحسب.

نقيض شعار “كلّن يعني كلّن” هو في هذا التنويه الذي يفضّ الشعار، كما في البلاغة المضمرة التي يجسّدها شعار “شيعة، شيعة، شيعة”. هنا كلمة واحدة، مكررة بعض الشيء، تقول إذ تبسط: أنتم كذّابون، بل هدفكم هو إسقاط “حزب الله” والعودة بالشيعة إلى موقع الضعف بعد أن بلغوا العزة والقوة رغم أنفكم، واعتراضكم ليس على الانتظام العمودي، بل تزعمون التواصل الأفقي لإضعافنا وإخضاعنا. ليس هناك من “كلّن” في موقع الحكم، بل ثمة رجل واحد آمر ناهٍ هو سماحة السيد، وشعاركم يستهدفه. ولكن خسئتم. وجوابنا الحاسم الجاسم على صدوركم هو إننا كلنا معه وله “شيعة، شيعة، شيعة”، وأمامكم إما الصغور والخضوع، أو البواخر الجاهزة لتحميلكم.

ذمية تيار صهر الرئيس قد تمنعه من أن يصدح بالمقابل. أقصى ما تجرؤ عليه هوامش بيئته هو عبارة “فيقوا يا مسيحية” المكتوبة على عجلة على بعض الجدران في دعوة خجولة إلى تقسيم مبطّن.

كان ليكون من الرائع القول بأن شعار “كلّن يعني كلّن”، في الواقع، هو بالفعل نقيض “شيعة، شيعة، شيعة”، كما هو في قصده الأول وغايته. على أن صفوف الثورة ملوّثة بالفعل بمن يتفّق مع مضمون “شيعة، شيعة، شيعة” وإن رغب باستبدال مفرداته بأخرى.

هي الثورة المضادة، لا بفعل التآمر ومحاولات الاختراق وحسب، على كثرتها، بل لحاجة مستمرة إلى مساءلات ومراجعات ونقد ذاتي لا يزال خارج المتداول الفكري، في لبنان كما في محيطه العربي.

عام على الثورة، والسبيل متاح للشروع بالنقد الذاتي والذي من شأنه أن يظهر التأطير ويحقّق اتساع الرؤيا والعبارة ليرسم معالم الوطن العتيد

لا بد من الإقرار والاعتراف للطغمة الحاكمة بأنها، بعد وهلة المفاجأة إذ جاءتها الثورة من حيث لا تحتسب، قد أعادت الإمساك بزمام المبادرة وكسب جولة، وربما جولات. بل ما أوقح هذه الطبقة السياسية المتمكنة بفعل السلاح، على وفرته، والمال، على شحته، إذ تصرّ على العودة بالرمز الوحيد من صفّها والذي كانت استقالته بارقة أمل للثورة بأنها قادرة على التحقيق. حين قدّم سعد الحريري استقالته من رئاسة الحكومة بعد أسابيع من اندلاع الثورة قبل زهاء عام، فعلها زاعما أنها استجابة لمطلب يتماهى هو معه. هو اليوم يعود، ولا عقبة أمامه إلا ما اعتاده وصحبه من مناكفات ومحاصصات.

على أن الجولة الأولى أو الجولات الأولى ليست المعركة. وإذا كان ثمة تفاوت بين قوة الطغمة وضعف الثورة في الجولات الأولى، فإن الواقع الموضوعي يشير إلى انعدام تكافؤ بالاتجاه الآخر، بين كثرة قادرة أن تعي مصلحتها وقلة تريد فرض هيمنها بالقهر والإكراه.

ليست ثورة 17 تشرين حدثا عابرا، وإن أغرقها الإعلام الخصم بكل ما أوتي من تحليلات طاعنة. بل هي إشهار للحقيقة المتواصلة بأن ما قام عليه لبنان، وإن نظريا، من رؤية حداثية متجاوزة للموروث الفئوي، يبقى الأقرب إلى المصلحة الموضوعية والبنية الذهنية للمواطن اللبناني، وإن دون قيادة وإن دون تنظيم، وإن بضخ متواصل من الإفساد وباشتعال ذاتي من الفساد.

عام على الثورة، والسبيل متاح للشروع بالنقد الذاتي والذي من شأنه أن يظهر التأطير ويحقّق اتساع الرؤيا والعبارة ليرسم معالم الوطن العتيد.

شاهد أيضاً

حدود “خلاف” بايدن ــ نتنياهو… فوق أنقاض رفح

بقلم: إياد أبو شقرا- الشرق الأوسطالشرق اليوم– ما زلتُ حائراً في تقدير قرار الرئيس الأميركي …