الرئيسية / الرئيسية / الكاظمي وامتحان الدولة…

الكاظمي وامتحان الدولة…

بقلم: مصطفى فحص

الشرق اليوم– ما بين تكليفه تشكيل الحكومة واستكمال تأليف حكومته، كانت هواجس العراقيين معلقة ما بين قدرة مصطفى الكاظمي على فرض التغيير والحاجة إلى أدوات غير متوفرة لا في مؤسسات الدولة ولا بين يديه. وكان التساؤل المشروع لحظة تسلمه: كيف يمكن لشخصية جاءت من خارج الطبقة السياسية وغير مدعومة بعصب مذهبية أو حزبية أو تقف خلفها كتلة برلمانية، مواجهة منظومة سياسية مسلحة سيطرت على الدولة ونهبت ثرواتها؟

كانت لحظة الكاظمي مركبة ومربكة؛ مركبة في فهم اختياره، ومربكة في معرفة أهدافه. وساعدت شخصيته شبه الغامضة المتأثرة بالمنصب الذي شغله في جهاز الاستخبارات في زيادة الحيرة لدى العراقيين الذين أربكهم الكاظمي في أسابيعه الأولى، حيث كان يمرر خلالها رسائل بعدة اتجاهات مطمئنة للبعض ومثيرة لحيرة البعض، حتى أنها أثارت حفيظة شباب الأول من تشرين الذين راهنوا عليه وكادوا أن يقتربوا من مخاصمته.

الدولة في العراق بالرغم من ضعفها إلا أنها حاضرة، ولكنها كانت تحتاج إلى من يبادر من أجل إعادة فرض سيادتها

قبل حلول 25 يونيو، الذي أسست أحداثه لمرحلة جديدة في مسيرة الحكومة العراقية ورئيسها، كان العاشر من مايو الفائت أول إجابة لمصطفى الكاظمي على أسئلة كثيرة رافقت تكليفه. في ذلك التاريخ كشف الكاظمي للجميع أن العراق يمتلك عصا غليظة، لا تساوم في حساباتها على ثوابت الدولة ومؤسساتها وهيبتها، وأنه سيستند عليها ويركن إليها عندما تحين لحظة الحقيقة. في 10 مايو أعاد مصطفى الكاظمي الفريق الركن عبدالوهاب الساعدي إلى الخدمة وكلفة رئاسة الجهاز الأقوى عسكريا والأكثر حرفية وشعبية عند العراقيين، فخطى حينها خطوته الأولى نحو إظهار أدوات قوة الدولة.

الدولة في العراق بالرغم من ضعفها إلا أنها حاضرة، ولكنها كانت تحتاج إلى من يبادر من أجل إعادة فرض سيادتها. وما جرى ليل الخميس وفجر الجمعة وضع الجميع أمام امتحان صعب، فالحكومة ورئيسها والقوات المسلحة أمام مفرق طرق؛ التراجع يمثل نهايتهم، والتمسك بموقفهم يأخذهم إلى مواجهة لم تكتمل شروطها. 

في المقابل، كان الحشد وفصائل الميليشيات التابعة له أمام اختبار القوة، فهل هي قادرة على تحمل كلفة المواجهة، وهي تعلم أن تراجعها خطوة واحدة إلى الوراء سيكسر هيبتها الوهمية ويضع حدا لاستقوائها على العراقيين، وما بينهما شارع منحاز كليا لسيادة الدولة لا يمكنه أن يتقبل فكرة أي تراجع قد يقدم عليه الكاظمي.

نجح الكاظمي في توجيه إنذاره الأول وسهل الطريق أمام حكومته لتحقيق ما وعد به من حزمة إصلاحات توقف تسلط الأحزاب المسلحة على مقدرات الدولة، وبات بإمكانه استعادة وظائف الدرجات الخاصة والوكلاء من هيمنة أحزاب السلطة، وتحرير المعابر الحدودية من يد الميليشيات المسلحة، وهو يستند الآن إلى ثلاثية ذهبية “الجيش والشعب والمرجعية” معادلة باتت تشكل غطاء مؤسساتيا واجتماعيا وروحيا لخطواته، فالثقة تعززت بإمكانية فرض التغيير التدريجي.

ومما لا شك فيه أن قناعة مكونات المجتمع العراقي بإمكانية التغيير، حتى لو كانت حذرة، جاءت نتيجة قراره الصارم ليس في تغطيته السياسية للعملية الأمنية التي نُفذت ضد ميليشيات الكاتيوشا بل أيضا لرفضه المساومة وإصراره على نقل القضية إلى القضاء.

أمام مصطفى الكاظمي فرصة لن تتكرر لصناعة تاريخ جديد إذا أصر على التحدي بالرغم من الخسائر الجانبية والمؤلمة التي قد يتعرض لها العراق

كان القلق في البداية من أن القوات المسلحة لم تستعد عافيتها بعد، واعتقد البعض أن الفصائل المسلحة أكثر قدرة على المواجهة وأكثر فاعلية. لكن ما غاب عن بال الكثيرين أن في السنوات الأخيرة أصبحت القوات المسلحة العراقية المؤسسة الرسمية الوحيدة التي تحظى بإجماع وطني، هذا الالتفاف الوطني مكنها من مواجهة مخططات إضعافها وعزلها وتفريغها من قادته عبر الإقالات والتهميش، وهي الآن قد استعادت جزءا لا بأس فيه من قدراتها وعرفت عقيدتها القتالية، وارتباطها الكامل بسلطة الدولة وسيادتها على مؤسساتها، ما يفرض عليها تصادما مع مشاريع الهيمنة على القرار السيادي العراقي من جماعات ما دون الدولة، وهذا كان واضحا في بيان قيادة العمليات المشتركة الذي أكد في مضمونه على سيادة الدولة وارتباط قرارها بالقائد الأعلى للقوات المسلحة فقط.

عمليا، وضعت هذه الفصائل المتفلتة نفسها في مواجهة ليست متكافئة، وكأنها لم تتعلم من تجارب الماضي ولا من مواجهات 2008 وما أسسته من انحياز اجتماعي عام لصالح الدولة وهي الآن توسع مأزقها مع خيارات العراقيين التي تبلورت بعد انتفاضة تشرين وأسست لهوية وطنية بعيدة عن الهويات العقائدية خصوصا تلك العابرة للحدود.

يقول كارل ماركس إن العنف ولادة التاريخ، ولكن لا يمكن الرهان عليه في صراعات العراق المعقدة والمركبة، إلا أن من لوح باستخدامه انقلبت تداعياته سلبا عليه، وهذا ما يعطي مصطفى الكاظمي فرصة لن تتكرر لصناعة تاريخ جديد إذا أصر على التحدي بالرغم من الخسائر الجانبية والمؤلمة التي قد يتعرض لها العراق، لكنها باتت الحل شبه الوحيد مع أطراف ترفض قيام الدولة.

شاهد أيضاً

أميركا إذ تتنكّر لتاريخها كرمى لعينيّ نتنياهو

بقلم: راغب جابر- النهار العربيالشرق اليوم– فيما تحارب إسرائيل على أكثر من جبهة، تزداد يوماً …