الرئيسية / مقالات رأي / رسالة خاصة: “سيدي يا علي”

رسالة خاصة: “سيدي يا علي”

بقلم: إبراهيم الجعفري

الشرق اليوم- من أنت!! وما منزلتك!!  نعرف أرجاءً من عالمِك دون ان نحيط بك وندرك كنه مقامك وأنّا لنا ان نحيط بك!!..  عرفنا بعض صفاتك لكنّا لا نعرفك على حقيقتك!!  شهد لك المحبون بالحق وكاد ان يهلك فيك المغالون منهم!! وأذعن المخالفون لك على عدلك وإحسانك وهلك الحاقدون منهم بظلمهم لك وتجاوزهم عليك!!

أيّ شرفٍ هذا الذي بلغت لتستقطب المحبّين من المؤمنين وتكون الدالّة على صدق إيمانهم والمؤشّر على المنصفين وحتى المخالفين فيهم.. وأن تستفزّ الحاقدين من القاسطين والمارقين و الناكثين ..

لقد عُدتَ منطقَ حقٍّ فأثرت ضدّك منطقَ باطل وتدوَّرتَ مع الزمنِ فترسّخت وتدوَّرَ أعداؤك خارجه فلفظهم.. لتتعاطى أجيالُ محبيك مع ذات الاصناف..   أنت كفتىً لست كباقي الفتيان!!..

ولا سيفُك (ذو الفقار) كباقي السيوف!!.. ولا منطقُك القرآني كمنطق باقي حملة الفكر وروّاد المعرفة ولا

المتشبّهين بمنطق الحق!!..  ولا سلوكك كباقي سلوك المؤمنين!!..

كل ذلك لأن فناءك بالله لم يُبقي فيك ذرةً من وجودك دون ان تذوب بالوجود الأقدس (الله تعالى)

كلُّ مفردةٍ فيك تميّزٌ عمّن سواك ما عدى حبيبنا وسيدنا الأعظم الرسول الأكرم (ص)..

يكفيك ما يقوله فيك ربُّ العزة من جملة ما يقول في محكم التنزيل ” ‫إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ “.. وآيات وآيات..

ويكفيك ما يقوله فيك حبيبُ الله وسيّدُ رسله وأشرفُ أنبيائِه (ص) ساعة برزت في معركة الخندق “برز الايمانُ كلُّه الى الشرك كلِّه”.. و”انت مني بمنزلة هارون من موسى”..  من انفتح على بعض حِكَمِك تفجّرت فيه ينابيع حكمة..  ومن تأمَّل خُطَبَك انحلّت عنده عُقَدُ لسان.. وبدت عليه ملامح بيان.. لستَ مجرد ذروةٍ كحكيمٍ وبليغٍ  فحسب بل أنت واهبُ بلاغةٍ وصانعُ حكمة تغذّيتَها من رسول الله (ص) وهي مما اتاكما الله تعالى من فضله”‫ يُؤْتِي  الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ .”..

سيدي يا أمير المؤمنين !! ها هي المحن والتحديات التي واجهتك تترى وتتواصل في عالمنا على سعته وبزمننا على طوله!!.. وعلى امتنا بكل مكوناتها!! غير أنّك يا مولاي لن تتكرر!! مع الزمن.. واذ لم تتكرر ولن تتكرر!فإن المؤمنين والمتأسيّن بك والماضين على نهجك يصرّون على مواصلة طريقك.. ساعين بقوة ارادتهم وببلاغة كلمتهم وبيُتْم شجاعتهم وبكفِّ كرمهم المعطاء؛ وبنبل خُلْقِهِم الآسِر؛ أن يصبروا ويثبتوا علّهم يظفرون بالنصر المؤزر على هدي سيرتك قولاً وفعلاً وتقريراً..  سيدي! الذين نظروا إليك بعيون اعدائك وقرأوك باقلام حسّادك.. أحالوا في نفوسهم قوتَك ضعفاً وجمالَك قبحاً!!..  فإذا بدُعابتك الزاهية التي يشرق بها الوجودُ كلُّه عُدَّت منقصة !!.. وإذا ببلاغتك القرانية النافذة في اعماق ذوي البصيرة صارت ضعفاً!! 

وإذا بصغر سنّك الكاشف عن  عظمتك في سماعك لرنين الوحي وجرس النبوة عادت لغواً!!  لله درّك ما اعظمك تعطّر سيف قاتلك برائحة دمك الزكي.. وتلوي اعناق اعدائك بذراع حلمك الفتّال .. وتغمر قاتلك بفيض خلقك النبوي.. أنت يا سيدي يتيم عصرك بل -عدى رسول الله ص- وحيد دنياك ).

يا وليد بيت الله !! وياصريع مسجده.. بدأتَ صلاتَك تأتمُّ بك جموعُ المصلين.. وأنهيتها لتحتفي بك جموعُ الملائكة المقرَّبين..  أيّ شرفٍ هذا الذي خصّك الله به.. وأيّ مقامٍ ذاك الذي ارتقيت اليه.. وأيّ لسانٍ هو الذي طرَّزت فيه نسيج وجودك بأعذب كلمات..  أمِنَ المعقول أن تعمى عيونُ القريبين فلا ترى فيك ما رأته عيونُ البعيدين رغم تقادم زمنهم وتباعد فكرهم!!..

لقد عَبَرْتَ الى الاخر البعيد رغم كل خلاف ولم يعتبر منك القريب رغم كل مشترك !!.. هو العظيم من يقلُّ اقرانه بل يضيق به زمانُه.. والأعظمُ من يزلزل قلاعَ اعدائه -أعداء الحق- وهو راقدٌ في قبرِه بمفاعلات فكره وقيمه وسيرته ومحبّيه..   كان قاتلُك قاتلَ بدنٍ بباطل.. وكنت قاتلَ بدعةٍ بحق..  بقيت وما بقى.. وارتفع بك صوت الحق.. تلاشى به صدى الباطل..  ها انت ينبوعٌ لا ينضب.. وهو سرابٌ يحسبه الظمآن ماءا..

ما هو سرّك ؟ تحتل الصدارة في كل زمان.. وتتبوّء أعلى المراتب في كل مضمار..   وتتصدر المواجهة في كل معركة ولاتلوذ اذا حمي بك الوطيس الا برسول الله!!..  بعتَ كلَّ وجودك لله..  فشراه بنصره وتوَّجَه برضاه..   تزدحم فيك الكلمات متسابقةً لمدحك.. وتتصاغر البلاغة عاجزة عن بلوغ عمقك.. وتعتلج المشاعر من فرط حبك.. حتى لنشعر ان لغتها أعذبُ من كل لغة ومفرداتها أروع من كل بيان.. محاولةً ان تنتقل من المفردات بحقك الى حق مفرداتك.. هذا بعض ما انت بل بعض ما فيك !!.. هو انت وانت هو فيما بدى من بعض أفعالك “وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى”..  وما غاب من أسرارك فعلمه عند ربك وعند رسوله الذي تولى تربيتك وسبر غورك..  اليوم ضربةُ غدرٍ طالتك.. وبعدها وسامُ شرف الشهادة تقلّدت.. وانت تدوي بصوتك “فزت وربِّ الكعبة!!”..  أيُّ يقينٍ هذا الذي ترسَّخ بقلبك وبأيِّ إمدادٍ هائلٍ زوَّدك!!..  صَغُرت عن ربك وكبرت عمّن سواه واذ بك الثاني بعد حبيبه المصطفى (ص) لتكون في الحياة الدنيا ربيبه وفي حمل الامانة عونه وفي الجنة رفيقه..

أي مصابٍ جلل حلّ بعالم الانسانية مثل هذا المصاب!!.. وأي جريمةٍ ارتكبت بحجم هذه الجريمة!!.. وأيُ خسارةٍ مُنِيَ بها العالم بفقدك!!.. تحكّموا باطلاً وهم اموات وحكمت حقاً وانت شهيد!!.. لله درّك تنطق بحق وتحكم بعدل وتشهد بإنصاف وتحب وتكره في الله..  اختزنت التاريخ بذاكرتك.. وفجّرت الحكمة ببلاغتك..

أبيت إلا أن تطرّز جسمك باوسمة الجراح..  لتخطّ منها أنشودة الخلود.. ويتغنّى فيها الزمن بأعذب لحن وترتّلها الأجيال بصمةَ وجود ودويّ وفاء..  أما جرس التذكرة الغديرية..  فلم يكن الغدير مجردَ مكانٍ أو زمان!!.. إنه إبلاغُ ما يعدل بحجمه حجم رسالة الله للناس متسعة للبشر وممتدة للاجيال.. لا نبي بعد رسول الله (ص) بعد أن اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون النبي الخاتم محمد(ص).. ومع ديمومة الرعاية الإلهية لعموم الناس لمرحلة ما بعد النبوة..  لتبدأ الإمامة شوط المسؤولية إبتداءاً بوحي من السماء وبرعاية رسول الله (ص).

اقتران الغدير بإنزال البلاغ الالهي المحدّد والمنطوي على خطورة عدم التبليغ به بما يعدل عدم التبليغ بالرسالة كلِّها!!.. يكشف عن وزن المسؤولية المراد إناطتها بعليٍّ (ع) وشأن حاملها وما ستثير من ردود فعلٍِ الناس.. وأنَّ أمراً كهذا سيتولّاه الله تعالى!!العيد من عودة الامة لما أراد الله لها وأودعه في مكنون فطرتها التي فطرها عليها من التمحور حول الدين “﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ  النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.”..  ولما ينبغي أن يتحلّى به الإمام من مزايا الكمال البشري في قيادة ركب الامة نحو أهدافها المرسومة كخير أمةٍ أخرجت للناس.. وحمل المسؤوليةِ النبوية بثقلها المعنوي المعني ببنائها على مدى التاريخ.. ومشاقِّها المادية ومواجعها التي تفرزها المسيرة وسط أشد انواع التحدي.

كمال الدين من كمال الله تعالى يحمله الوسيط الكامل المؤمن به حد اليقين والمجسِّد لمفرداته حد الامتزاج بل التماهي!!.. نبيّاً كان أم وصيّاً.. ليحفظ مسيرتها على جادّة الوسط دون أن تزيغ بمتاهات التطرّف في الإفراط أو التفريط ذات اليمين وذات الشمال.. مما يستلزم مواجهة كل أعاصير التحديات التي تهبّ عليها من داخلها وما تواجه من صعوبات خارجها.. روي عن مدرسة الصحابة: في المستدرك على الصحيحين 139/3″ أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين.. طفحت على سطح الأحداث منذ عصر رسول الله (ص) ظاهرة الخوارج وإن لم تبلغ شدة ضراوتها كما في عصر أمير المؤمنين (ع) وما بدت عليه في أشرس معركة..  لم تكن تلك طارئةً على التاريخ بل إفرازاً لمكونات اجتماعية تتدوّر مع مراحله وتعبّر عن ردود فعلٍ باطلةٍ بوجه الحق أينما ظهر وبأي صورةٍ تمظْهر!!..  جبهة داخل الامة في المواجهة ليست بمعزلٍ عن جبهات خارجها في مختلف الميادين، ما ورد في كتاب الله العزيز “يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ.” أيّ كلام بعد كلام الله في محكم التنزيل بهذا الوضوح وهذه القاطعية؟  أما الروايات التي وردت من مصادر المدرستين (الشيعة والسنة) فقد بلغت حدَّ “التواتر اللفظي” وكلها “معتبرة السند” و”قطعية الدلالة” عن مدرسة الصحابة: “(من كنت مولاه فعلي مولاه) فهذا حديث صحيح عند الترمذي وأحمد إذ لا يلزم أن يكون الحديث الصحيح فقط عند مسلم والبخاري.. ” لا تواتر لفظي في الروايات كتواتر رواية الغدير!!.. ولا دلالة قطعية كدلالتها.. أما دليل السيرة الذاتية الذي سجّل لعليٍّ عليه السلام بكمال السلوك في كلِّما قال!! وما سلك!! وما عبد!! وما حكم!! وما ساس!! وما قاتل!! وما أنفق!! وما عفى!! وما أيقن في إيمانه!! وما سكت وصبر!وما ودّعَ به الدنيا بهتافه الخالد “فزت ورب الكعبة” لا يحمل رسالة الكمال الا الكامل وقد كان لها سيد الرسل وأشرف الخلق محمد (ص). وأودعت الامانة عند أخيه وخليفته علي (ع) وقد حصل ما حصل!!.. وانبرى لها أبو الحسن يذبّ بنفسه عن حرم الرسالة.. ليلقّن العالم درساً لن يُنسى ويبقى على مدار التاريخ: متأسيّاً برسول الله (ص) ليبقى حيّاً بحياتها وعميقاً بضميرها.. ويموت الرسول جسماً ولكن في الرسالات لن يموت الرسول، ويبقى السؤال كيف كانت صورة العالم الاسلامي خاصّة والعالم عامة لو أنَّ الركبَ قد شقَّ طريقه بما أراده الله دون ما تعرّض له من تحريف؟! قائدٌ لا تعدل الدنيا عنده بكلِّ زخارفها شسع نعله!!.. يجوع ليشبع غيره!!..  يتأسى بفقراء المسلمين حتى لا يتبيَّغَ بالفقير فقره.. لم يكن عليّ لذلك الزمان وحسب بل كان عليّاً لزماننا وكل زمان لكنه قطعاً سيكون لزمن المستقبل الذي يعشق الحرية والطمأنينة  والتسامح وينشر لواء العدل والحب والهدى والأمان. سيدي يا أمير المؤمنين تأخّرت في رسالتي إليك ليس من حيرة ما أقول فيك..  ولكن من حيرة ما انتقي من عالمك الواسع!!.. الذي ملأته بخُلقك المحمدي الغامر!!..  وشجاعتك العلوية الفريدة.. وزهدك الملائكي اليتيم!!..  وينبوع بلاغتِك المتفجر بالحكمة!!.. وعدلك البتّار كسيفك ذي الفقار!!..  بدأت أدرك ما قاله الرسول (ص) في أول طريقك في زمن البعثة منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً من الزمن..  “ياعلي أنا أُقاتل على التنزيل وأنت تقاتل على التأويل.”  ها هي كلماتك تتدفق ينابيع!! لتلهم الاخر من كل دينٍ ومن كل مذهبٍ وبلدٍ ولغةٍ!!..  هي ما ألهمت جورج جرداق فكتب في رائعته ما كتب!!..  وها هو عدلك يصرخ ممزقاً استار صمت الظلم ويقضّ مضاجع الظالمين!!..  منحت أجيالنا قيماً عصيّةً على النسيان ومتطاولةً على هامة الزمان!!..  فعجباً عجباً أن يصمَّ جيلُك عنها  الأذان.

شاهد أيضاً

إنصاف «الأونروا»

بقلم: وليد عثمان – صحيفة الخليج الشرق اليوم- لم تكن براءة وكالة الأمم المتحدة لغوث …