الرئيسية / الرئيسية / العدالة وقياس قوة ونضج المجتمع

العدالة وقياس قوة ونضج المجتمع

بقلم: علي كامل الطائي

الشرق اليوم- العدالة كمفهوم اجتماعي وفلسفي يراد به أن يتناسب الحق مع الواجب منظورا له ذاتية الفرد ولا يعني التساوي المطلق فقط في تطبيق القانون، السبب يعود بشكل أساسي أن الأفراد في أي مجتمع أساسا لديهم فروقات طبيعية ذاتية وموضوعية، وبالتالي أخذهم بمقياس واحد لا يعد ذلك عدلا ولا تطبيقا صحيحا لمبدأ التساوي، العدل في مسيرته الاجتماعية مثلا وهذا ما ثبت من خلال تطبيقاته العملية في المجتمعات الأكثر تطورا ورقياً  في بسط مفاهيم حقوق الإنسان، يبنى على قاعدة أن كل فرد في المجتمع له خصوصية مميزة قد تكون مساهمة في تنفيذ الواجب وما هو فوقه أو استحقاق الحق وما دونه، ولكي يكون مفهوم العدل عمليا لا بد أن تكون المساحة التي يتحرك بها نسبية وأن يكون القانون أكثر تفهما وإدراكا للواقع الفردي دون أن نتمسك بمحدودية النص وجفاف فكرته على أنه أعمى لا يرى حلا أخر إلا من خلال تطبيقه كما هو بدون النظر للفرق الفردي.

قد يظن البعض أن هذا الكلام يعني أننا ندعو إلى أن يكون القانون لعبة بيد من يطبقه بحجة الفروق الفردية، وبالتالي قد نمنح أشخاصا حقوقا أكثر من الأخرين أو نلقي عبئ الواجب على فئة دون أخرى بحجة الظروف والخصائص الذاتية، الجواب من خلال معرفة مفهوم القاعدة القانونية التي هي جوهر وروح النص القانوني نجدها تتحدث عن مفهوم مطلق على حال مطلق دون مراعاة للجانب الذاتي، فالقاعدة القانونية قاعدة موضوعية لا علاقة لها بمن ستطبق عليه أو من يستثنى من تطبيقاتها، وبالتالي هذه العمومية يجب أن لا ترتبط بخصوصية ما إلا من خلال النتيجة المتحصلة من تطبيق القاعدة.

 فمثلا عندما يسرق فقير رغيف خبر فهو في نظر القانون سارق يجب أن يعاقب دون أن تتدخل العدالة بالنتيجة أو السبب !!، الحالة المقابلة عندما يسرق موظف كبير من الدولة أو من ضمن وظيفته وهو غير مضطر للسرقة أو غير مضطر عليها تحضر القاعدة بتجردها بغض النظر عن كون الدافع هنا مختلف، فهو سارق أيضا ويجب تطبيق نفس القاعدة بما طبقت به على الفقير وكلاهما مجرم من وجهة نظر القانون، هذه العدالة المجردة بكل بساطة أما العدالة الحقيقية أو العدل المنطقي الذي يقول أن الموظف الذي سرق يجب أن يعاقب مشددا عن جريمته وعن جريمة الفقير الذي سرق رغيف الخبز، لأنه هنا فاعل أصلي في الجريمة الأولى وفاعل مشارك ومسبب لحدوث الجريمة الثانية بالنتيجة والسبب، ولنتذكر القول المأثور ما جاع فقير إلا بسبب حق له مسروق من قوي قادر على سرقة ما يشاء.

نعود إلى عنوان المقالة والتفريق بين مفهومي العدل والعدالة في مجال قياس قوة الأداء في المجتمع وعلاقة كل ذلك بقوة القانون وإنفاذه ونجاحه في ملاحظة الفوارق الذاتية والشخصية، من التجربة الاجتماعية التي مرت بها مختلف المجتمعات البشرية نلاحظ أن العدل والعدالة الإيجابية لها القدرة على إعادة صياغة العلاقات البينية والقيم الفوقية في المجتمع أكثر من مجرد تطبيق مفهوم العدالة مجردا، لذلك يمكننا أن نقول أن المنظومة القانونية الناجحة في أي بلد هي مصدر القوة الأساسي في سلامة البنيان الاجتماعي وسلامة العلاقات الناشئة من التعاملات البينية بين أفراده، مما ينعكس إيجابيا على معايير الجودة والقوة النسبية في حالة المقايسة والمقارنة، وكلما نجحت المنظومة القانونية بتوزيع العبء والحقوق بين أفرادها وفقا لمبادي الأخلاق والقيم الإيجابية سيكون هذا المجتمع قادرا على تحقيق التوازن والاستقرار في بناءه الذاتي.

على العكس تماما حينما نطبق القانون كقاعدة عامة مجردة لا علاقة لها بما هو في ذات وشخصية محل التطبيق ندفع بالمجتمع للتحايل والدوران على الحق، وأحيانا انتهاك القاعدة عبر استخدام وسائل وأساليب لا أخلاقية تدمر حالة التوازن المنشود وتعرض القانون أصلا للفشل في بسط أحكامه، وبالتالي خروجه من خط النجاح والتطور إلى مرحلة الركاكة والفشل العام، التجربة التاريخية البشرية أثبتت أن عدالة قاسية وقانون جامد لا يمكنهما أبدا بناء مجتمع منظم، ولكن عدالة إيجابية وقانون مرن وحيادي بين أفراد المجتمع سببا كافيا لدفع حركة العلاقات الاجتماعية لمرحلة التفاعل الجمعي لبناء الذات الفردية والكلية.

التجربة الاجتماعية والقانونية ولمراحل طويلة في العراق يمكننا أن نصفها بالتجربة المتخاذلة والفاشلة في بناء علاقات قوية في المجتمع العراقي، القانون في الغالب قواعد مادية جامدة لا يمكن من خلالها أن نحقق العدالة الإيجابية وحققت القساوة والانتقام أكثر مما حققت الإصلاح والتصالح ودعم حالة الاستقرار، ومن وجهها الثاني استخدمت أيضا كمبرر وأساس للهروب من تطبيق القواعد القانونية حينما أفردت ولمصالح شخصية ميزات خارج نظام العدالة لأشخاص وفئات مما أوجد مسببات وأعذار وطرق استخدمت من قبل المجرمين للتحايل والالتفاف على القانون، مما أدى في كثير من الأحيان حتى إلى انتهاك قواعد العدالة المجردة بالرغم من كل ما تتمتع به هذه القواعد من أحكام وقوة إلزامية في التنفيذ.

لذا عندما نسمع أن العراق كدولة ومجتمع يمتاز بضعف الأداء القانوني وأحيانا يصل التوصيف على أنه كيان يتحول إلى الفشل المستدام، فهذا يعني بالنتيجة أن المنظومة القانونية قواعد وفلسفة ومنهج وتطبيقات وفلسفة كلها عاجزة عن توفير الحد الأدنى من العدالة ناهيك عن تحقيق العدل وإشاعة روح المسؤولية والشعور بوطنية الانتماء لهذا المجتمع، إن هذا العيب رغم كونه عيب قانوني وتشريعي فهو أيضا عيب أخلاقي وقيمي بالأساس ومعالجته لا تتم من خلال تشديد القواعد القانونية أو زيادة قسوتها أو الضغط التي تمارسه على المواطن، وإنما من خلال تغيير مفاهيم الانطلاق والأسس التي تستند لها العدالة وتبرر وجودها مع هدفية النتائج التي ترتبط بالإصلاح ولا ترتبط بالانتقام كغاية كبرى.

شاهد أيضاً

“نيويورك تايمز”.. الإدارة الأمريكية متفائلة بشان هدنة غزة

الشرق اليوم- إن إدارة جو بايدن “متفائلة” بشأن إمكانية التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل وحركة …