الرئيسية / مقالات رأي / العراق وخنّاقوه

العراق وخنّاقوه

بقلم: إبراهيم الزبيدي

منذ أيام بابل وسومر وآشور، ثم الخلافة الإسلامية الأولى، والدولة الأموية والعباسية، وإلى زمن الاحتلال الأميركي، ثم الإيراني الأخير 2003، لم يشهد الشعب الذي استوطن بلاد ما بين الرافدين فترات صفاء مستقرة وثابتة مع جارتيه الكبيرتين، تركيا وإيران، كما ينبغي أن تكون العلاقة بينه وبين جارين يُشبهانه في المشارب والطبائع والثقافة، وفي الدين أخيرا، إلا في حالات نادرة وقصيرة وعابرة.

ومن سوء حظ العراق، وكان ينبغي أن يكون ذلك من حسن حظه، أن يقع موجودا بين جارتين قلما كانتا متصافيتين في ما بينهما. وبدل أن تجعلاه أرضا محايدة بينهما يستخدمانها ساحة حوار فقد اتخذتا منه جسر عبور لقواتهما الخارجة من حدودهما للعدوان والغزو والاحتلال والاستيطان.

وكان طبيعيا، بسبب ذلك، أن تستباح أرض العراق جيوشُ هذه الجارة أو تلك، من حين إلى حين. فمرة تحتله جيوش الفرس، وتارة جيوش بني عثمان. وحين غزا الأميركيون العراق في 2003 وجدت إيران فرصتها النادرة المنتظرة لدخوله ثم احتلاله بذريعة التحالف المَصالحي بين الجيوش الأميركية من جهة، وبين الحرس الثوري الإيراني وميليشيات المجلس الأعلى الإسلامي وحزب الدعوة وباقي الميليشيات الإيرانية العراقية الأخرى، من جهة أخرى، بحجة اجتثاث البعث وفلول صدام حسين وحماية النظام الأميركي الديمقراطي التعددي الذي يضمن مصالح الدولتين الحليفتين من إرهابهم ودكتاتوريتهم وأحلامهم بالعودة إلى حكمه من جديد.

وكانت هذه هي أولى صفقة غباء سياسي تاريخي جغرافي عسكري اقتصادي يعقدها الأميركيون مع ملالي متمرسين في (التقية) والمراوغة والنفاق. وها هم اليوم يجاهدون، بتظاهرات وكلائهم العراقيين، وبتهديدات كبار قادتهم المدنيين والعسكريين، من أجل طرد ما تبقى من فلول أميركية متناثرة هنا وهناك، كانت قد أعادتها، بعد خروجها، حكوماتُ إيران العراقيةُ ذاتُها، حين تطلبت حاجتهم إلى ذلك.

كل هذا عن إيران وحدها. أما تركيا اليوم، وهي تعبر الحدود وتقتل وتحتل وتأسر وتغتال دون رادع وطني يصدها، فلا تختلف عن تركيا القديمة وغزواتها واحتلالها للعراق لثلاثمئة وخمس وثمانين سنة، من عام 1535 وحتى عام 1920.

ولا تقل مرارة احتلالها عن مرارة الاحتلال الإيراني بشيء. وما زال العراقيون يتحدثون عن عنصرية الإمبراطورية العثمانية التي كانت سياسة التتريك من أبرز وجوهها، والمجازرُ الجماعية، وسوْق مئات الآلاف من رجالهم وأبنائهم للتجنيد الإجباري ليموتوا في حروبها الاستعمارية المعروفة بـ (السفر برلك).

من هذه المقدمة الطويلة المملة نُفضي إلى الخلاصة، وهي أن لاعبا ثالثا قد دخل، بإصرار وعزيمة ثابتة، إلى حلبة الصراع الدامي بين إيران وتركيا على أرض العراق السليب.

ويظن الكثير من العراقيين، اليوم، بأن الأميركيين، هذه المرة، قد يكونون قرأوا التاريخ بدقة ونباهة، وتعلموا كيف يأخذون مكان بريطانيا العظمى التي احتلت العراق، في أعقاب الحرب العالمية الأولى 1914، فحمته من الأصابع الإيرانية والتركية، وحافظت على استقراره وأمنه وسيادته حتى موعد خروجها.

وهنا ينبغي التأكيد على نقطتين، الأولى أن أميركا اليوم غير أميركا الأمس. فهي لن تدخل العراق محتلةً كما فعل بوش الابن، ولن تخرج منه خالية الوفاض كما فعل أوباما. فما جنته جيوشُها من كوارث على أيدي العراقيين، سواء الذين قاوموا احتلالها بوطنية صافية أو الذين كانت تدسهم إيران وتركيا لمنعها من تثبيت احتلالها للعراق، ومنعِ الدولتين الطامعتين فيه من التسلل إليه، كاف لإيقاظها من غفلتها وجعلها تحارب إيران وتركيا دون جيوش بجيوش، ولا حديد ونار بحديد ونار.

والنقطة الثانية أنها، وكما هو واضح من جميع قرارات إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب وتحالفاتها الجديدة، وآخرُها مؤتمر وارسو، ماضية قدما في ما يخص إيران في سياسة الخنق الاقتصادي والسياسي والعسكري الهادفة إلى تركيع النظام الإيراني وإخراجه دون قتال. وبأكثر من صيغة وأسلوب وكلمات تم إبلاغ القيادة الإيرانية بأن أميركا في حالة تعرض قواتها في العراق أو في الخليج العربي لأي اعتداء مسلح، من أي نوع، ومن أي وزن، سواء من قبل الجيش الإيراني والحرس الثوري، مباشرة، أو من قبل ميليشياتها العراقية فإن ردها سيكون ضرباتٍ ماسحة كاسحة لمواقع ومراكز إيرانية عسكرية حيوية، ربما داخل إيران ذاتها.

أما في ما يخص تركيا أردوغان فبسياسة إغراق السلطان العثماني بحروب استنزاف دامية داخلية وخارجية لا تنتهي.

وهنا نتوقف قليلا لنعترف بأن أغلب العراقيين، غير المستظلين بخيمة الإمام الخميني ووريثه علي خامنئي، لا يرون لهم مصلحة من أي نوع لا في نصرة إيران، ولا في نجدة تركيا، ولا في إعانة أميركا على تركيا وإيران.

والحكمة والحنكة والنباهة وحسابات الزمن البعيد تنصح كلها بأن تظل بلاد ما بين النهرين، قدر ما تستطيع، بعيدةً عن هذه المحرقة، وتنتظر نهاية هذا المسلسل الطويل.

وواهمٌ وغافل وجاهل من يحمل سلاحه ويقاتل لا دفاعا عن أهله وبوطنه، بل دفاعا عن أيٍ من خنّاقيه الثلاثة، أميركا وتركيا وإيران. وسيرحلون، جميعهم، كما رحل غيرهم، وسيبقى العراق ويبقى أهله العراقيون، وسنرى.

المصدر: العرب اللندنية

شاهد أيضاً

لبنان- إسرائيل: لا عودة الى ما قبل “طوفان الأقصى”

بقلم: علي حمادة- النهار العربيالشرق اليوم– تسربت معلومات دبلوماسية غربية الى مسؤولين لبنانيين كبار تشير …